ثقافة

السرديات الرقمية والحكايين الجدد

يشهد على الماضي وحكاياته جدران المعابد المنقوشة, والحكايات الأسطورية, والقصص الشعبية, وسير العظماء. ونجد أننا ننبش في الماضي لنستقِ العبر من السيرة الهلالية, وحكايات ألف ليلة وليلة, وقصص الحب القديمة لقيس وليلي وعنتر وعبلة, وجميل وبثينة, وحكايات الجاحظ , وغيرها … جميعها حكايات نتناقلها ومحفوظة في الكتب, وفي الذاكرة التاريخية. نشتاق إلي السرد المشوق التي كتبت به هذه الحكايات ونستمد منها العبر والحكم, تربي عليها أجيال كثيرة. ولكن يبدو أن الأمر بات مختلفا مع ظهور حكايات جديدة, حكايات رقمية, تعتمد على ثقافة جديدة, تعرف باسم ثقافة التريند, الذي يطفو علي سطح تفاعلات الإنترنت يتناقله الناس, وسرعان ما يهبط ليصعد تريند جديد, يلخبو ويطفو غيره… وهكذا , تثير هذه الحكايات الرقمية التي تعتمد علي التريند العديد من القضايا التي تستحق التفكير في معناها ومضامينها, وطرق حفظها.

https://www.youtube.com/watch?v=uZYoRV4dDXE

السرديات من الحكايين إلى هوس التريند

ما السرديات narratives ؟ إن مفهوم السرديات وإن ارتبط بالرواية إلا أنه أوسع من ذلك بكثير, فالسرديات تشمل الماضي بعبقه التاريخي, والحاضر بواقعه المعاش, السرديات ليس مجرد قصص وروايات فقط, ولكن تضم افتراضات وبديهيات وتحيزات وعقائد وحكايات تاريخية مرتبطة بعادات الشعوب, تشمل السرديات على القصص المتداولة في الماضي والحاضر الواقعية منها والأسطورية, وتشمل السرديات على مجالات متعددة منها الدين, والأدب, واللغة, التي يصوغها العقل الجمعي للتحول إلى حقيقة تاريخية في بعض الأحيان. تناولت ما بعد الحداثة فكرة انهيار السرديات الكبرى, وقصد بها أصحاب التوجه ضعف الثقة في قدرة النظريات الكبرى في فهم وتفسير الواقع, وإن كان هناك جدل كبير حول هذه القضية إلا أنها تشير إلى بداية تفكك السرديات.

تتعدد وسائل نقل السرديات من الماضي إلى الحاضر, ويشهد على ذلك وظيفة الحكايين أو القصاصين الذين يرون قصص الماضي بشكل شفوي أو مكتوب في صورة شعرية أو روائية أو أغاني نثرية, ومنهم من يعتمد على السرد الشفوي الممتع الذي يجذب المستمع إليه بلغته المشوقة, يبدو أن الأمر بات أكثر اختلافا مع زيوع الإنترنت وثقافته .

يشير واقع الإنترنت إلى أنه أصبح مجالا ووسيطا لنقل السرديات, سواء السرديات القديمة, أو السرديات المعاصرة- إن جاز التقسيم-  فقد لعبت التكنولوجيا الرقمية دورها الكبير في نظرية السرد والممارسة, فقد تم إعادة النظر في السرديات, ليتجه الحديث عن تأثير التكنولوجيا السيبرانية في الحفاظ علي السرديات القديمة, وبناء السرديات الجديدة, بل يتجه الحديث الآن نحو شكل جديد من أشكال السرديات وهي السرديات الرقمية digital narratives, وهي السرديات التي تظهر عبر وسائط الإنترنت.

السرديات وحكايين التريند

أفرزت مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها المختلفة عن نمط من الحكايات الجديدة والمتمثلة في التريند, والتريند تعني عدة معاني في اللغة فهي تعني اتجاه، توجه، تيار، جهة، رغبة، مجرى، مذهب، مسار، مساق، مشرب، منحى. ونجد أنها بمثابة موضة فكرية سريعة, ترتبط بالأفكار أو الأشخاص أو الموضوعات التي نجد لها تفاعل كبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فنجد تريندات سريعة منها سيدة القطار, وطالب الثانوية العامة بائع الفريسكا, وطفل المرور, وسيدة المطر … وغيرها من التريندات العامة, وهناك تريندات تخص الفنانين والمشاهير الذين تعج صفحاتهم بالعديد من المريدين التي تتخذ من استهلاكهم وسياراتهم وملبسهم وصورهم تريندات. إنها سرديات وقصص وحكايت ولكنها سريعة .

إن الحكايين الجدد هم رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين يتناقلوا القصص ويجعلوها تطفو على السطح, ونجد أن الحكايات الخاصة بالتريند تأخد طابع ثقافي وديني أحيانا مثلما فعل الشباب العربي في التعامل مع قضية الإساءة إلى الرسول صل الله عليه وسلم،( إنها بالفعل حكايات جديدة وحكايين جدد).

الحكايات الرقمية أخف وزنا وأسرع انتشارا

ذهب المهتمون بالسرديات الرقمية إلى أن هناك تهديدات تواجه هذا النمط من السرديات, وأهمها التسارع الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي. فقد أدى الإنترنت إلى سرعة فائقة وغير مسبوقة في نقل الأحداث الحاضرة, وبروز التريند الذي يعد بمثابة موضة لحظية, ثم سرعان ما يحل محلها موضة أخرى, فبعض السرديات تصل إلى حد التريند ثم تزول. إن أصحاب هذه الرؤية يصفون الإنترنت بأنه ليس مجرد وسيلة اتصال, ولكنه بيئة مستقلة في حد ذاته, وبطبيعة الحال لم يقلل هذا الأمر من دوره في نقل السرديات الرقمية.

إن السرديات في معناها الواقعي , وخصوصا القديمة تجدها – على سبيل المثال – منقوشة على الجدران في المعابد- أو مطبوعة في كتب تراثية, فالمنقوشة على الجدران لها قدرة كبيرة على الاحتفاظ بالمعلومات بشكل كبير, وتتصف بعدة خصائص منها أنها: طقسية, وتقليدية, ودينية, ومحصورة جغرافيا, وبنفس الحال في السرديات المكتوبة والتراثية التي تتناقلها الكتب فإنها تراثية ومتداولة, ومحفوظة. إن الأمر يبدو أكثر اختلافا في السرديات الرقمية, فإنها تتصف بأنها أخف وزنا, وأكثر سرعة في النشر, ويسيطر عليها هوس العقلية الحاضرة أكثر من العقلية التاريخية, كما أنها هشة وسريعة التلف, وهناك صعوبة بالغة في الحتفاظ بها .

السرديات الرقمية والتحولات الزمكانية

إن السرديات في طبيعتها منحازة, وكذلك فإن السرديات الرقمية لها تحيزاتها, فإما أن تكون منحازة للوقت أو منحازة للمكان. ويقع على الباحثين الذين يهتمون بتحليل السرديات الرقمية عدم إهمال عنصر الوقت, فإن التحول نحو الإنترنت والحديث عن نهاية الزمان والمكان, يقود إلى تساؤل عميق مفاده: ما الآثار الاجتماعية المترتبة علي أرشفة السرديات الرقمية والحفاظ على السرديات الرقمية وجهود الأرشفة للمدونات, ومواقع الويب, ومستندات الويب؟

يجيب عن جزء من هذا السؤال أحد المسئولين عن أرشفة الرقمية للسرديات, حيث ذهب كينيث ثييورد  Kenneth Thioodeue,إلى أن هناك مشكلتين متعلقتين بالسرديات الرقمية والاحتفاظ بها: ترتبط المشكلة الأولى بالباحثين الذين يعملون في جمع السرديات الرقمية, فإنهم غالبا ما يفتقدون إلى الدعم والمساندة, وأن جهودهم فردية وتطوعية, وأن معظمها يتحرك تحت راية جهود فردية, أو منظمات المجتمع المدني. أما المشكلة الثانية وهي الأخطر فإنها مرتبطة بسبل الاحتفاظ بالسرديات الرقمية: فالسرديات المنقوشة على الحجر أو الموجودة على أرفف المكتبات, تقع ضمن المحفوظات, وتعبر عن الماضي وأقل عرضة للتلف, أما السرديات الرقمية فإنها عرضة للتلف من جذورها بضغطة زر واحدة , كما أن الاحتفاظ بها لفترة طويلة أمر غاية في الصعوبة نظرا لتطور البرمجيات, بمعنى لقد كانت وسائط الاحتفاظ قديما على قرص مرن, وهو لا يصلح الآن, فإن البرمجيات تتغير بسرعة فائقة مما يجعل الاحتفاظ والأرشفة بالسرديات في العالم الرقمي أمر صعب, فتغير أنظمة الكمبيوتر والبرمجيات يجعل من الصعب قراءة ما تم الاحتفاظ به قديما, مما يسبب صعوبة في الاحتفاظ بالسرديات الرقمية.

يمكن القول في النهاية إن البحث في موضوع السرديات الرقمية من الأمور المهمة, ويحتاج إلى فرق بحثية متكاملة, ومنهجيات تسمح بجمعها والاحتفاظ بها… فهل من مشمر؟.

وليد رشاد زكي

أستاذ مساعد علم الاجتماع - المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock