كنت قد سمعت وقرأت عن الدكتور رشدي سعيد عالم الجيولوجيا المصري المعروف والذي كان يعيش في الولايات المتحدة منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، شاهدته في أكثر من لقاء تلفزيوني وعرفت أنه يزور مصر في شهور الشتاء من كل عام، ترقبت وصوله إلى القاهرة، وعرفت أنه سيلقي محاضرة بمقر اتحاد الأطباء العرب، ذهبت إلى قاعة المحاضرة واستمعت إلى حديث العالم الفذ عن إهدار موارد الدولة في سواحل البحر المتوسط والبحرالأحمر في المشروعات الخرسانية، وأسهب سعيد في شرح تفاصيل مشروعه لتعمير الصحراء الغربية بإقامة مجتمعات صناعية متكاملة بديلا عن المنتجعات المهجورة أو المشروع الذي أعلنت الحكومة حينها عن دراسته والخاص بزراعة الصحراء.
بعد انتهاء المحاضرة التي ألقاها سعيد مطلع عام 2007 طلبت منه أن يخصني بحوار لجريدة «الكرامة» التي كنت أعمل محررا بها، رحب وابتسم وحدد لي موعدابعدها بـ 3 أيام، راجعت خلال تلك الأيام العديد من مقالاته المنشورة في الصحف والحوارات التي أجرها.
ذهبت قبل الموعد المحدد بدقائق مصطحبا أدواتي (ورق دشت وأقلام وجهاز تسجيل – وهو جهاز ظني أنه انقرض منذ سنوات ولا تعرفه الأجيال الحالية، كان يحمله الصحفي وهو في طريقه لإجراء أي حوار صحفي أوتغطية ندوة أو مؤتمر قبل ظهور أجهزة الهاتف المحمول لتوثيق المحتوى قبل كتابته ونشره-)، قبل تشغيل جهازالتسجيل دار حديث قصير عن إدارة السلطة القائمةحينها لموارد مصر، وكيف تحولت تلك السلطة التي قصرت في القيام بدورها الاجتماعي والاقتصادي إلى مقاول أو تاجر أراضي وعقارات. تبسمت واطمأننت إلى أنني سأحصل على حوار ساخن تصلح عناوينه مانشيتات للصفحة الأولى، وهو مراد أي صحفي عمل بالنسخ الورقية للصحف قبل انتشار النسخ الإلكترونية.
https://www.youtube.com/watch?v=T79Np1vLb30
مشروع تعمير الصحراء
سعيد الذي سيشهد عام 2021 مرور 100 عام على ميلاده، اعتبر حينها إن «إساءة استخدام الموارد الطبيعية للدولة جريمة»، وضرب مثلا على استغلال السلطة السيئ للسواحل الشمالية والشرقية، وقال إن المساحة الواقعة بين الإسكندرية والسلوم تكفي لإنشاء دولة كاملة، «باعوا سواحل البحر الأحمر للسياح الأجانب وسواحل البحر المتوسط للباشوات بتوعهم.. وهذا أسوأ تبديد للثروة في مصر».
وأشار سعيد في حواره إلى أن تلك السواحل كان من المفترض أن تكون امتدادا طبيعيا لمصر، «نبني عليها مصر الجديدة، مجتمع صناعي متكامل، فمصر ستعيش في حدود إمدادات قليلة من المياه ولا يجوز إهدارها في مشروعات زراعية تستهلك كميات كبيرة منها، ولابد أن يكون لدينا على السواحل محطات لتحلية مياه البحر تخدم المجتمع الصناعي الجديد، ونرشد استخدام المياه الجوفية في الصحراء الغربية».
كان الرجل يدرك في ذلك الوقت أن مصر ستواجه تهديدا كبيرا في مياه نهر النيل، «إسرائيل بتلعب في دول حوض النيل ويجب أن نكون منتبهين وعاملين حاسبنا»، لكنه أيقن بخبرته أن السلطة التي تعمل على بقائها حتى آخرنفس لن تلتفت إلى تلك التهديدات.
سعيد استرسل في الحديث عن مشروعه لتعمير الصحراءالشاسعة وتحويلها إلى أراض مستغلة، يعتمد مشروع أبى الجولوجيا المصرية على تعمير جزء من الصحراء وربطه بوادي النيل بشبكة محكمة من المواصلات والاتصالات،واقترح إقامته في المنطقة الواقعة شمال الصحراء الغربيةوالتي يحدها البحر المتوسط من الشمال ومنخفض القطارة وواحة سيوة من الجنوب، بسبب اعتدال مناخها وانبساط تضاريسها وقربها من مناطق الطاقة – حقوق الغاز الطبيعي – ومراكز العمران والبحر الذي يمكن استخدام مياهه في التبريد في كثير من الصناعات.
هذه المنطقة بحسب سعيد يمكن أن تستوعب كل مصانع مصر القائمة بوادي النيل بالإضافة إلى عدد مماثل من المصانع الجديدة، كما يمكنها استيعاب عشرات الملايين من العاملين فيها أو من سيقومون بالأعمال المكملةوعائلاتهم، وبطبيعة الحال فان المنطقة ستحتاج إلى تزويدها بالمياه العذبة عبر أنبوب يمتد من النيل ولعل هذايكون أفضل استخدام للمياه في الصحراء لأن مردودهاسيكون أكبر بكثير من المياه التي تستخدم الآن في استصلاح الأراضي الصحراوية.
كان سعيد يعتقد أن هذا المشروع سيغير وجه مصر،«يتحول وادي النيل إلى محمية طبيعية للزراعة المتقدمة،وتصبح الصحراء روضة صناعية»، ولفت النظر إلى أن تنفيذيه يحتاج إلى دراسات ومناقشات مستفيضة يمكن أن تشغل الأمة وتصبح قاعدة لمشروع قومي حقيقي،«نجند فيه علماءنا للبحث في موضوع تخطيط المدن لتفادي المشاكل التي تعاني منها مدننا القديمة ونجند مهندسينا لدراسة أفضل طرق البناء التي تستطيع أن تعطي للفقراء ومتوسطي الدخول مسكنا صالحا رخيصاوجميلا في آن واحد».
وعن تمويل هذا المشروع الضخم قال سعيد: «لو وُجهت إليه الأموال التي تهدر اليوم في محاولة تخفيف الزحام في المدن القائمة عن طريق بناء كباري علوية وطرق دائريةومترو للأنفاق، وكلها حلول مؤقتة ما أن ينتهي العمل فيهاحتى تعود مشاكل الازدحام من جديد.. وكذلك توفيرالإنفاق على مشروعات استصلاح الأراضي الصحراويةوشق قنوات في الصخر و الملاحات، وتوفير نقل الموادالأولية والطاقة إلى المصانع بعد أن جئنا بالمصانع إليها،حينها يمكن للمشروع أن يرى النور».
سعيد أكد في حواره أن المشروعات السياحية التي أقيمت على السواحل، لا تخفف كثافة السكان في الوادي، ولاتخلق فرص عمل مستدامة، فالعمالة في تلك المشروعات تعود إلى منازلها في قرى ومدن الوادي حيث يسكن ذووهم، فضلا عن أن الاستثمار في السياحة يتأثر بالكثيرمن العوارض.
مفكر موسوعي
وانتقل الحوار مع العالم الكبير إلى ملفات أخرى، منها العلاقة الطردية بين الديمقراطية والتقدم، وبين الاستبدادوالتخلف، كما تطرق الحديث عن الأحداث الطائفية التي تشتعل في مصر من حين إلى آخر، سعيد اعتبر أن أنظمة الحكم المتعاقبة هي التي أذكت الفتنة، «لو كان هناك مشروع وطني جامع، كان التعصب الديني تراجع».
لم يكن الدكتور رشدي سعيد عالما متخصصا نابها في مجاله وحسب، بل كان مفكرا موسوعيا له تصور ورؤية للارتقاء بالمواطن المصري وانطلاق مصر نحو المستقبل،من خلال نشر الثقافة والتنوير والمنهج العقلاني الإنساني المتحرر من آفة التعصب والعنصرية.
قال عنه الأستاذ محمد حسنين هيكل: «نحن أمام أستاذ فى الجيولوجيا خطا من الإمعان إلى التمعن ومن العلم إلى الثقافة، حتى استطاع أن ينفذ من طبقات الأرض إلى حياة البشر الذين يعيشون فوقها، وقدّم إحاطة تربطالجغرافيا والتاريخ، وتصل الحاضر والمستقبل، وتكشف بالعلم والكلمة مطالب التقدم والعمران حتى تصنع نوعًاراقيًا من المعرفة المتكاملة القادرة على الإلهام والتأثير».
وأضاف هيكل فى تقديمه لكتاب رشدي سعيد «الحقيقة والوهم فى الواقع المصرى»: أن رشدى سعيد رجل تسعى إليه جامعات الدنيا وتستضيفه محافلها، لكن وطنه بشكل ما لا يسمعه بالقدر الكافى، وهو رجل مطلوب فى كل مكان ولكن وطنه لم يستدعه للخدمة العامة إلا فترة قصيرة، ثم أزاحته أجواء السياسة من مواقع التفكيروالتنفيذ، وتخلت عنه لكى يحتضنه هؤلاء الذين عرفوا قدره من خارج وطنه لسوء الحظ.
رحلة عمر
في مذكراته «رحلة عمر.. ثروات مصر بين عبد الناصر والسادات» والذي كتبه في الثمانين من عمره، وهي السن التي لا يطمح الإنسان فيها إلا إلى «الستر والصحة»،ولا يستطيع عندها أن يخفي شيئاً ولو كان قد سكت عنه من قبل، قال سعيد: «إن نظم الحكم في مصر ما زالت تحتفظ بالكثير من سمات نظم الحكم في العصرالوسيط.. وهي لا تسمح عملياً بالمشاركة كما لا تسمح بإخضاع السلطة للمساءلة الجادة»، وتلك هي الكارثةالتي يرى سعيد أنها لاحقت مصر وأوصلتها إلى ما هي فيه.
ويشير سعيد في كتابه إلى أن مصر كانت أغنى دولة في العالم قبل الثورة الصناعية، ويعتبر أن قيام إسرائيل عام1948، وعنصر البطالة هما أهم رافدين لبعث التطرف الديني في مصر وبصفة خاصة في الجامعة، لافتا إلى إلى أن التسامح الذي أرسته ثورة 1919 الليبرالية، «ثورة النهضة الكبرى، قد تلقى أولى الطعنات حين مالأإسماعيل صدقي قوى اليمين الديني لضرب خصومه من الليبراليين واليساريين».
وتحدث سعيد عن أوضاع الشعب المصري قبل ثورة 1952، قائلا «كان الشعب مقهوراً ومحصوراً في واديه الضيق». أما عن التعليم والبحث العلمي في مصر فيؤكدأن كل الانجازات الثقافية والعلمية ذات القيمة، تمت إمابعيداً عن الجامعة، أو بعد الابتعاد عنها، «أن أحد أهم جوانب مآساة البحث العلمي في مصر، هو عدم القدرةعلى إقامة علاقات علمية متكافئة مع الأجانب، والجهل بأولويات البلاد والخضوع للاغراءات والاكتفاء بالشكلية،عند إقامة مثل هذا النوع من العلاقات بين غير الأنداد».
تولى سعيد مسئولية مؤسسة التعدين بعد هزيمة يونيو 1967، وأفرد لها في كتابه زاوية خاصة روى فيها كل ماقام به إدارياً وتنظيمياً وكشفياً وبحثياً، وعن ذكرياته عن رحلته في تلك المؤسسة (1941-1978) يقول: تخرجت من الجامعة إلى مؤسسة التعدين، وكان يحدوني الأمل أن أنقل هذه المؤسسة إلى مؤسسة عصرية تستخدم البحث العلمي والطرق الحديثة في الكشف عن واستغلال ثروات مصر المعدنية».
ويسترسل: «في الحقيقة كانت مؤسسة التعدين في حالة يُرثى لها عندما وصلت إليها في أعقاب حرب سنة 1967 التي زادت من مشاكلها، وبدأت عملي بتقييم شركات التعدين القائمة، والتي كانت ثلاثة منها تعمل في حقل استخراج خام الفوسفات، فقمت بزيارة مناجمها في شهريوليو سنة 1968، وبدأت رحلتي بزيارة مناجم شركتي سفاجة والقصير على ساحل البحر الأحمر، عبرت بعدهاالصحراء لزيارة مناجم شركة النصر على ضفة النيل في منطقة إسنا بالصعيد».
«عندما رجعت من رحلتي، تأكدت أن انطباعي الذي كنت قد كوّنته من معرفتي بجيولوجية هذه المناطق، عن قلةاحتياطياتها من خام الفوسفات القابل للاستخراج الاقتصادي قد استقر تماماً في ذهني، فتأكدت أنها لاتملك الأسس أو العناصر اللازمة التي تجعلها قادرة على المنافسة».
ويتابع سعيد: لذا قررت بناء هيئة عالمية المستوى للبحث العلمي لدراسة أرض مصر، للكشف عن ثروتها المعدنيةواختيار الصالح منها للاستخراج الاقتصادي؛ ليكون أساساً لهذه الشركات الجديدة للتعدين، وفي ضوء هذاالقرار قمت بإعداد مشروع قانون يُعيد تشكيل مؤسسةالتعدين التي كنت أرأسها، نقلت فيها تبعية شركات التعدين القائمة، والتي كانت تتبع المؤسسة إلى مختلف المؤسسات الصناعية الأخرى التي كانت تستخدم خاماتها، وحددت من بين أهداف هذه الهيئة الجديدة الدراسة العلمية للأرض المصرية، وتقييم رواسبها المعدنيةوجدوى استخراجها وتصميم مناجمها، ومشروعات استغلالها، وأسميت الهيئة الجديدة بهيئة المساحة الجيولوجية والمشروعات التعدينية.
عالم في البرلمان
وعن ذكرياته السياسية (1961 – 1976) يقول: تم اختياري عضواً معيناً بمجلس الشعب في برلمان سنة1964، ولم أكن سعيداً بهذا الاختيار، فقد أكد لي ماكنت قد بدأت أن أشعر به منذ عودتي من البعثة من أني بالفعل قد أصبحت «الآخر» في الوطن، وزاد من عدم سعادتي ما عرفته من أن اختيار الأعضاء المعينين من الأقباط فيما عداي، كان قد تم من قائمتين أعدت واحدة منها بطريركية الأقباط، وأعد الأخرى كمال رمزي أستينوالوزير القبطي بالوزارة، ومن غرائب الأمور أن الدولة التي كثيراً ما تقحم المؤسسة الدينية في أعمالها، هي نفسهاالتي تصمم على ألا يدخل الدين السياسة، والتي تمنع إنشاء الأحزاب القائمة على أساس الدين.
ويعود سبب هذا التناقض، بحسب سعيد إلى هشاشة مؤسسات المجتمع المدني التي تقف الدولة كحجر عثرة أمام نموها، «لم يكن للبرلمان – والحق يُقال – مصداقيةكبيرة، وقد حاولت ولمرات عديدة، اقتراح عدد من الإصلاحات التي كنت أعتقد أنها يمكن أن تصلح هذاالمجال، وكنت تقدمت كخطوة أولى بتقديم اقتراح يمكّن التنظيم السياسي من تحسين اختياره لمرشحيه، ويعطي مقياساً لأداء أعضاء البرلمان حتى يمكن الحكم عليهم بمعايير موضوعية، بدلاً من الاعتماد على الشائعات والتقارير التي كثيراً ما تتسم بالهوى».
عرض سعيد عندما كان نائبا بالبرلمان على أنور السادات رئيس مجلس الشعب حينها، أن يكون أخذ الأصوات على الأقل في حالة مشرعات القوانين المهمة بالنداء بالاسم،حتى يكون موقف كل عضو في البرلمان معروفاً ومسجلاً،فيمكن بذلك أن يكون لدى القيادة وجمهور الناخبين سجل بمواقف النائب من مختلف القضايا، عندما يحين وقت إعادة انتخابه، إلا أن هذا القرار قد رُفض بل وقُوبل بالاستهزاء، فقد كان تمرير القوانين يتم بسهولة أكثرعندما كان الرأي يؤخذ برفع الأيدي والنداء بالموافقة بعدذلك ومهما كان عدد رافعي الأيدي.
كان سعيد من المعارضين لاتفاقية السلام مع إسرائيل،وكتب عنها في مذكراته: «كامب ديفيد هي طريق الشرق أوسطية، والأخيرة لن تقوم إلا على دعامتين هما التفكك العربي وإضعاف الاقتصاد»، ويرى سعيد أن السادات قد بدل الخيارات المصرية مما سهل على دعاة الشرق أوسطية مهمتهم.
وبسبب مواقفه المعارضة لـ«كامب ديفيد»، أصدرالسادات قرارا باعتقال رشدي سعيد ضمن قرار اعتقالات سبتمبر الشهيرة، وكان سعيد حينها خارج البلاد، فقرر عدم العودة إلى مصر وباع مكتبته في القاهرة وانتقل مع زوجته وأولاده إلى الولايات المتحدة، ولم يعد إلا بعد اغتيال السادات كزائر وتكررت زيارته إلى القاهرة في شتاء كل عام، يرصد ويتابع ويحلل ويكتب ويتحدث، ثم توقفت هذه الزيارات ليرحل سعيد بعيدا عن وطنه في 2013.