يعد الشاعر الكبير الأستاذ درويش الأسيوطي من أصحاب المواقف النادرة في الثقافة المصرية المعاصرة، إذ إنه وقلة من المثقفين والكُتّاب لم يغادروا قط الأقاليم التي ولدوا بها إلا لرحلة علم أو عمل قصيرة، وتلك الإقامة وإن كانت حرمتهم من فرصة الشيوع والانتشار الكبير إلا أنها جعلتهم من آباء الثقافة في أقاليمهم.
ولد الأسيوطي في السادس من أغسطس من العام 1946 بقرية الهماميّة التابعة لمركز البداري بمحافظة أسيوط بصعيد مصر، غادر أسيوط ليحصل على بكالوريوس التجارة من جامعة عين شمس القاهرية، ثم عاد بعدها إلى أسيوط ليقيم، مشاركة في ترقيتها وتثقيف أولادها فأنشأ العديد من الجرائد والمجلات، منها” صوت الجماهير” و” اللقاء” و ” الملتقى” و” سلسلة الإبداع الثقافي، و” سلسلة كتب مسارح”.
وأخرج الأسيوطي العديد من المسرحيات ومثّل في بعضها وقد حاز على جائزة الممثل الأول في العام 1971.
ومع عطائه المشهود في المجال المسرحي وفي الكتابة للطفل، ظل الشعر هو ميدانه الأول، فنشر الكثير من المجموعات الشعرية، نذكر منها ” أغنية لسيناء ” و”الحب في الغربة “أغنية رمادية” و” من أسفار القلب “.
وقد أهتم اهتمامًا خاصًا بكل ما له علاقة بالتراث الصعيدي، فكتب ونشر ثلاثة كتب هي ” لعب العيال ” و” من أهازيج المهد “و” أشكال العديد في صعيد مصر “.
وأمام كل هذا العطاء المتواصل على مدار أكثر من نصف قرن كرمته الدولة ومنحته جائزتها التشجيعية، ثم منحته وسام الفنون من الطبقة الأولى في العام 1997.
حرارة الدموع
في العام 2006 نشرت الهيئة العامة لقصور الثقافة لدرويش الأسيوطي كتابه الذي بين أيدينا” أشكال العديد في مصر”.
الأسيوطي مولع أصلًا بصيانة وحفظ التراث عامة والصعيدي منه على وجه الخصوص، ولكنه مع كتابه هذا، كأني به لم يكن يقصد الحفظ فحسب، بل والرثاء أيضًا، رثاء فن عظيم مات أو شارف على الموت.
سأل الأصمعي أعرابيًا: ما بال المراثي أشرف أشعاركم؟
رد الأعرابي: لأننا نقولها وقلوبنا محترقة.
وسأل درويش الأسيوطي أمه: هل ما يزال لديك يا أمي من هذا العديد؟
فردت: الأم: هو إمتي بيخلص يا ولدي، العديد، نهر حزن بلا مصب، يجري من آلاف السنين ولن يجف.
من حرقة السؤالين والإجابتين، يبدأ الأسيوطي كتابه الذي هو أقرب إلى بحث جامع، يجري وفق المناهج الأكاديمية وليس الكتابات التلقائية.
يؤكد الأسيوطي أن العديد هو فن نسائي خالص، فلن تجد رجلًا يعدد كما تعدد النساء، هذا مع أن العديد ليس إلا رثاءً للميت وتعديدَا لمناقبه، ولكن طريقة النساء في قول هذا الرثاء، لا تصلح مع الرجال خاصة في مجتمع الصعيد.
أعتمد الأسيوطي في جمعه لمادة كتابه على محفوظاته من العديد لأنه عندما كان طفلًا كان يُسمح له بالوجود مع والدته في الجنائز، ولأن الشاعر يولد شاعرًا فقد حفظت ذاكرة الأسيوطي كثرة من فن العديد، ثم أعتمد على تسجيلات قام بها لنساء ورجال من شمال الصعيد وهي المنطقة التي يعرف جغرافيتها جيدًا وكذا عائلاتها.
العديد بمعنى تعديد المناقب والمكارم هو فن عربي قديم جدًا، ومع الأحداث غادر ديوان الميراثي الفصيح إلى أرض العامية المصرية، وتولته النساء المصريات بالتهذيب والترقيق، حتى أن المستمع لا يستطيع حبس دموعه متى سمع عديد المرأة الصعيدية.
الضغوط الاجتماعية
قد يظن البعض أن صاحبة العدودة تنطلق هكذا فجأة للبكاء الشعري على الميت، وهذا الظن غير صحيح بالمرة، فالمرأة تعاني ما نعرفه من ضغوط اجتماعية وثقافية، ولذا تجد في حلقة التعديد فرصة للإفراج عن أحزانها الخاصة، العامة، لأن أحزانها هى أحزان بقية النساء.
تقول المعددة:
” قالوا حزينة / أنا قلت من يومي
قسموا النوايب / طلع الكبير كومي”.
والمعنى أنها حزينة مذ كانت، وعنما قاموا بتوزيع المصائب وجدت أن نصيبها هو أكبر المصائب والأحزان!
ثم بعد رثاء الذات يبدأ القصيد الحزين، الذي يتكون غالبًا من بيتين أو أربعة أبيات، وليس مهمًا التزام قافية واحدة كما في شعر الميراثي الفصيح، لأن المعددة تهتم بوجود التقارب والتوافق الموسيقي بين حركة الحروف.
والمثال على ذلك هو عديد المرأة التي مات زوجها فجأة ورأسه على صدرها.
فهى تقول:” صبرك عليّ/ لما أقول قولي
ميلتك رقبتك / حرمتني من نومي”.
هنا تتساوى كلمة (قولي) مع كلمة (نومي) في التقفية.
فالتقفية تبدأ بضم الحرف الأول، ثم وجود حرف المد الواو ثم كسر الحرف الثالث، وأخيرًا الكسرة المتمثلة في حرف المد الياء، وهكذا.
بعد التمهيد برثاء الذات، تنخرط المرأة في حديث مع نفسها، إنه ذاته الذي نعرفه باسم (المنولوج)، واضح أن الاحزان هى خير معلم!
تقول المرأة:
” خلفت الطريق ومشيت بالعاني
خلف الطريق الوعد لقاني
خلفت الطريق ومشيت على مهلي
خلف الطريق الوعد نده لي”.
والمعنى أن الإنسان لن يفر من قدره الذي هو الوعد والمكتوب، فأي طريق اختار سيجد قدره أمامه، بل إن القدر سينادي على صاحبه!
ومن(المنولوج) تذهب المرأة إلى (الديالوج) فتجري حوارًا مع الآخر أو الآخرين، فهي تسأل وتسجل سؤالها، ثم تتلقى الإجابة وتسجلها.
تقول المرأة:
ـ وعملت إيه ساعتين طلوع روحي؟
ـ بقيت أسف الحمضلة بلوحي.
ـ وعملت إيه ساعتين طلوع الروح؟
ـ بقيت أسف الحمضلة باللوح.
المعني هو سؤال عن رد فعل تجاه لحظة الاحتضار.
وإجابة المسئولة أنها كانت تسف الحنظل بلوحها، والسف، عربي قديم وسف الدواء أي تناوله يابساً غير معجون.
والحمضلة تحريف للحنظل ولوحها تعني به كفها، فهي تسف الحنظل سفًا.
وفي العديد نوع فريد من السرد، وهو يظهر على صورتين، الصورة الأولى: أن يتضمن السرد ردًا ومثال لك العدودة التي تقول:
” شيعت لك مرسال تجيني تحت البيت”
هنا تقول المرأة لرجلها إنها قد بعث لك برسالة لكي يحضر إلى بيتها.
فيرد الرجل” أنا في قرار اللحد ما حسيت”.
يعتذر عن عدم حضوره لأنه قد مات ولم يشعر بالرسالة التي قامت الزوجة بإرسالها إليه.
والصورة الثانية: هى سرد خالص يكشف عن حالة المعددة ولا يكون في الصورة رد من الرجل.
تقول المعددة:
“خدت الفطير وشرايح الليمون
إنشوف حبيبي ليكون مغبون
خدت الفطير وشرايح الرمان
إنشوف حبيبي ليكون زعلان”.
ثم يصل الأسيوطي إلى شكل جديد من أشكال العديد فيكتب عن ” التطويحة” فيقول يقصد بالتطويحة مد النائحة صوتها بالغناء، استعدادًا لقفلة المقطوعة. ولذلك يأتي الحرف الذي يمد النائحة فيه الشطرة ما قبل الأخيرة من المقطوعة، ولأنها دائمًا في جانب الثوابت، بل تكون في آخر الثوابت، فستكون الكلمة التي بها الحرف في الموضوع نفسه من مقطوعة من مقطوعات مجموعة العدودة مثل كلمة: حبيبي في المجموعة السابقة أما الحرف المقصود فسيكون ياء المد السابقة للباء.
https://www.youtube.com/watch?v=iKfrR5IPi1w
ثم ضاع الجمال
أزعم أن الكتاب يضم آلافًا من الأبيات الفاتنة، فالكتاب كبير يقارب الخمسمائة صفحة من القطع المتوسط، ومؤلفه هو شاعر بالأساس، يحفظ الكثير ولديه تسجيلات حية للكثرين من الرواة النساء والرجال المنتشرين بين قرى أسيوط.
أبيات قصائد العديد تشمل كل مناحي وحالات الحياة، فهي تصف أحوال الإنسان من لحظة مرض موته، ثم طلوع روحه ثم مرحلة غسله الغسل الشرعي، ثم دفنه، ثم إقامة صوان العزاء، ثم تخيل حالاته تحت التراب، ثم تنطلق المعددة فتقول إنه في موسم الحصاد كان يفعل كذا وكذا من مكارم الأخلاق، وفي ساعات الزواج كان يفعل كذا، وفي أيام البناء والعمران كان يفعل كذا، إنها ترثي كل اللحظات والمواقف التي كان يبرز فيها شخص الراحل الكريم، وتقول على لسان ابنته ما يجب ان تقوله الابنة وكذا على لسان ابنه وكذا على لسان زوجته.
رصد شعري رائع يدفع بالدموع إلى العيون، ثم جرت في النهر المياه التي نعرفها، فذهب كل هذا التراث أو كاد يذهب لولا بقية باقية من قدماء الرواة.
لماذا كاد هذا الفن أن يختفي؟
يجيب الأسيوطي: هناك أسباب تأتي من داخل الفن نفسه وأسباب تأتي من خارجه.
الأسباب التي تأتي من داخله يقف على رأسها، استعصاء الكثير من مفردات هذا الفن على غير أبناء المنطقة التي تعيش بها المعددة، وظني أن محفوظات الأسيوطي، مقصورة على أبناء شمال الصعيد فقط، وذلك الاستعصاء جعل الفن محاصرًا بحدود جغرافية لا يستطيع تجاوزها، فالعديد في الأقصر وأسوان وسوهاج، غيره في أسيوط والمنيا.
ومن الأسباب الخارجية نلاحظ أن العديد مقصور على حلقات النساء، فكيف لرجل أن يقتحم تلك الحلقات ليقوم بالتسجيل، هذا في الصعيد دونه خرط القتاد؟
ثم هناك تراجع نظرتنا إلى مورثنا الثقافي، ونعت هذا المنظر بالتخلف والتدني، وهو شهد الله من كل ذلك براء، فبعض المقطوعات التي أوردها الأستاذ الأسيوطي تقف رأسًا برأس مع شوامخ الخنساء ولكن من الذي يقدر فن امرأة صعيدية أمية؟
https://www.youtube.com/watch?v=H1sBHem9434
ثم كانت ما يقولون إنها صحوة إسلامية، فتلك الصحوة المزعومة جعلت دعاتها يحرمون كل تلك الطقوس ومن بينها فن التعديد، وهذا عجيب جدًا فلو كانت صحوة ما كانت لتخاصم الفن الجميل المؤثر، فما الحرمة في البكاء بشكل شعري على ميت عزيز؟
وبعدُ فقد جمع الأسيوطي مادة كتابه قبل ما يزيد على العشرين سنة، وتوقع أن يختفي هذا الفن، لأن الرواة كانوا متقدمين في السن، وأغلب الظن أن أحدًا لم يحفظ عنهم، ثم الموت نفسه أصبح معلبًا وسابق التجهيز ويملأ الطرقات فذهبت الحسرة والدهشة وهما من لوازم فن التعديد، فإن لم تبارد المؤسسات المعنية بجمع هذا التراث فسيختفي تمامًا كأنه لم يكن يومًا يملأ الدنيا ويشغل الناس.