“يا أيتها الغمامة أمطري حيث شئتِ، فإن خراجكِ لي”
عندما قال الخليفة هارون الرشيد هذه الجملة لم يكن مبالغا، فكما يقول أحمد فريد رفاعي في كتابه {عصر المأمون}: لقد كانت دولة الرشيد — كما يقول الفخري — دولة من أحسن الدول، وأوسعها رقعة، فقد جبا الرشيد معظم الدنيا”.
والرشيد من أشهر الحكام العرب القدامى، طبقت شهرته الشرق والغرب على السواء، فقد ارتبط باسمه الكثير من الصفات والمعان، والصور الخيالية، فهو الخليفة المترف المسرف في الترف، المشهور بولعه بالغناء واستمتاعه بالنساء والشراب، وفي هذا قال ابن حزم: “أراه كان يشرب النبيذ المخُتلَف فيه لا الخمر المُتفَق على حرمتها”، ويقول ابن خلدون: “ما يُحكى من معاقرة الرشيد الخمر، واقتران سكره بالندمان، فحاشا لله، ما علمنا عليه من سوء”…. وقال: “وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاواهم فيها معروفة، أما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها”.
الرشيد كما رواه المؤرخون
يجمع المؤرخون أن الرشيد كان خليفة قويا هزم أعداء الدولة، “وبسط سلطان الخلافة على أطراف الأرض”، وفرض الجزية على بيزنطة وملوك الروم. وقضى على التمرد والمتمردين، حتى استقرت أحوال الخلافة. وكان فقيها بألوان العلم والدين والأدب، مشجعًا للفقهاء والعلماء والشعراء والكتاب. كما كان “الخليفة الورع الزاهد المُتهالِك نُسُكًا وطاعة وتبتُّلاً لله”، وذكر المؤرخون: “أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته”……. وكان“يحج سنة ويغزو كذلك سنة.”، وكان عندما يخرج للحج يأخذ صحبته مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج، أخرج للحج بديلاًعنه ثلاثمائة بكل ما يحتاجون من نفقة وكسوة.
يقول الحافظ الذهبي في {سير أعلام النبلاء}: “كان من أنبل الخُلفاء، وأحشم الملوك، ذا حجّ وجهاد، وغزو وشجاعة ورأي. وكان أبيض طويلا، جميلا، وسيما، ذا فصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة، وله نظر جيد في الأدب والفقه. قيل: إنه كان يحب العلماء، ويعظم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه، لا سيما إذا وُعِظ. وكان يحب المديح، ويجيز الشعراء، ويقول الشعر. وقد دخل عليه مرة ابن السماك الواعظ، فبالغ في إجلاله، فقال: تواضعك في شرفك أشرف من شرفك، ثم وعَظَهُ، فأبكاه. ووعظه الفُضَيل مرة حتى شهق في بكائه.”
التأريخ بين الحقيقة والأسطورة
لقد امتزجت الحقيقة بالأسطورة، وتداخل التأريخ والخيال، في رؤية المؤرخين للخليفة هارون الرشيد، إلى الدرجة التي جعلت مؤرخين كبار يُعتد برواياتهم، يُضمِّنون تأريخهم روايات هي أقرب إلى مزاج الخيال الشعبي منها إلى التأريخ، فنجد بعض المؤرخين يذكرون في رواياتهم لتاريخ أمير المؤمنين هارون الرشيد، أحداثًا لا يمكن أن يقبلها أي مدقق في أحوال الممالك والملوك والدول، خاصة إذا كان المُؤرَخ له من يُشْهَد له ــ من قِبَل جل المؤرخين ــ برجاحة الفكر والصلاح والتقوى والعدل..
فنجد الكثير من المؤرخين، عند الحديث عن سبب نكبة البرامكة يرجعون غضب الرشيد عليهم لما يقرب من مؤامرات الحريم وكيدهن، متجاهلين الأسباب المتعددة، والدافع السياسية المختلفة، والصراع على الحكم، التي أحاطت بحادثة نكبة البرامكة، تلك الأسباب التي تأرجح المؤرخون حولها، ولم يستطع أي منهم أن يجزم بماهية السبب الحقيقي لوقوع هذه النكبة. فجميعهم، رغم اتفاقهم على السياق الذي أحاط بنكبة البرامكة، والأحداث التي سبقتها وتلتها، إلا أنهم لم يتفقوا على الأسباب والدوافع التي أدت إلى وقوعها.
فالمسعودي، والطبري، وابن كثير ــ وكل منهم مؤرخ مُعتبَر يُعتَد به ــ يتناولون أسباب غضب الرشيد على البرامكة على النحو التالي…
يقول الطبري في {تاريخ الرسل والملوك}: “إن سبب هلاك جعفر والبرامكة، أن الرشيد كان لا يصبر عن بعاد جعفر، وعن بعاد أخته عباسة بنت المهدي، فكان يحضرهما إذا جلس للشرب، وذلك بعد أن أعلم جعفرًا قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: أزوجكما ليحل لك النظر إليها اذا أحضرتها مجلسي، وطلب منه ألا يمسها، ولا يكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته…. فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيثملان من الشراب، وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، فحملت منه وولدت غلاما………….”.
أما المسعودي، ففي روايته اختلاف بسيط، حيث يذكر أن العباسة ضغطت على أم جعفر البرمكي، حتى تآمرت معها، وخدعت جعفر وجعلته يجامع العباسة دون أن يدري أنها العباسة!!! في رواية هي أقرب لحكايات ألف ليلة. يقول المسعودي في كتابة {مروج الذهب}: “….. وانصرفت العباسة مشتملة من جعفر على حمل، ثم ولدت غلاما، فوكلت به خادمًا من خدمها وحاضنة، فلما خافت ظهور الخبر وانتشاره، وجهت الصبي والخادم والحاضنة إلى مكة، وأمرتهما بتربيته، وأن يكتما الأمر ولا يصرحا به لأيٍ كان.”
على أية حال، فان ما يرويه المسعودي عما حدث بعد أن علم الرشيد بما كان بين العباسة وجعفر البرمكي، أمر يثير العجب.. ففيه من الطرافة والتسلية القدر الوافر، ومن المأساة قدرًا أوفر، ومن الملهاة ما يبعث ضحكا هو أقرب إلى البكاء.
فلما علم الرشيد بالأمر، عن طريق زبيدة، أحب زوجاته إليه، يقول المسعودي: “فأمسك الرشيد عن ذلك، وطوى عليه، وأظهر أنه يريد الحج، فخرج هو وجعفر البرمكي….. وكتبت العباسة إلى الخادم والحاضنة أن يخرجا بالصبي إلى اليمن….. فلما صار الرشيد بمكة، وَكَّلَ من يثق به بالفحص والبحث عن أمر الصبي، فوجد الأمر صحيحا…… فلما قضى حجه ورجع، أضمر في البرامكة على إزالة نعمهم، فأقام ببغداد مدة، ثم خرج إلى الأنبار، فلما كان في اليوم الذى عزم فيه على قتل جعفر دعا السندي بن شاهك (مدير شرطة الخليفة هارون الرشيد، عرف بقسوته البالغة وعدم تردده في قتل أي شخص يقع بين يديه حفظًا لنظام الخليفة وامتثالاً لأوامره)، وقال لابن شاهك: إني آمرك بالمضي من ساعتك إلى مدينة السلام، والتوكيل بدور البرامكة (أي كبس بيوتهم والقبض عليهم)، فسأله ابن شاهك في عجب: البرامكة؟!.. كلهم؟! أجابه الرشيد: دور البرامكة ودور كتابهم وأبنائهم وقراباتهم وأشياعهم جميعا.”
ثم دعا الرشيد إلى مجلسه جعفر البرمكي، فأقاما يومهما بأحسن هيئة وأطيب عيش، وكان بالمجلس بعض من أهل الكلام، وغيرهم من أهل الآراء والنحل، وطال الكلام في موضوعات شتى، حتى أمر الرشيد بفض المجلس، وخرج مشيعا جعفر، ثم رجع فجلس، وأمر من ساعته ياسرًا خادمه، فطلب منه أن يأتيه برأس جعفر البرمكي، فذهب ياسر لينفذ أمر الخليفة وهو في غاية من الدهشة.
ولما عاد ياسر برأس جعفر البرمكي، وضعها بين يدي الرشيد، فلما رأى الرأس بين يديه، طلب من ياسر أن يأتيه بخادميه محمد والقاسم، فلما أتى بهما.. قال الرشيد: “اضربا عنق ياسر، فإني لا أقدر أن أنظر إلى قاتل جعفر”!!!
https://www.youtube.com/watch?v=lZ1AguDfEuQ
حكايات ألف ليلة وليلة
في معظم قصص ألف ليلة وليلة نرى شخصية الرشيد تحتفظ بكثير من صفاتها التاريخية المعروفة، الواردة في المصادر المختلفة،والتي اتفق عليها جل المؤرخين، بيد أن الخيال الشعبي نسج من هذه الصفات، حكايات ووقائع وأحداث ينسبها إلي الرشيد، فحلق بالخيال، وطاش إلى أبعد الحدود.
يقول أحمد أمين في كتابه {هارون الرشيد}: “…. وكان مِن حُسْن حظ الرشيد، رواج ألْف ليلة وليلة رواجًا عظيمًا في الغرب، ووقوفهم على قيمتها، عكس ما كان ينظر الشرقيون إليها قديما؛ فقد وصفها ابن النديم بأنها قصص تافهة، ولكن الغربيين رأوا فيها خير ما يمثل الحياة الاجتماعية، فيما تروي مِن عقائدَ، ومِن حوار، ومِن مكْر نساء، ومِن لَعِب شطرنج إلى غيْر ذلك، ورأوا أنها تمثل الشرق من جميع نواحيه، فعنوا بها من نواح مختلفة. وربما كان أول مَن ترجمها إلى الفرنسية الأديب الفرنسي “جالان” ثُم “إدوارد لين” إلى الإنجليزية، ثُم “لتمن” بالألمانية. وقد راجت هذه الترجمات رواجًا منقطع النظير، وكان في رواجها رواج للرشيد معها….. ثم كان ما نتج عن ذلك، من استغلال هذه الترجمة باستيحائها، ووضع قصص أحيانًا للأطفال، وأحيانًا للكبار، وأحيانًا تمثيلية، وأحيانًا غير تمثيلية، وهكذا. وكلها عَمِلت لهارون الرشيد عَمَل السحر، مما لَمْ تعمله أية دعاية لأي ملِك آخر.”
ومن الحكايات التي نسبتها ألف ليلة وليلة لعصر الرشيد حكاية السندباد البحري، أما الحكايات التي كان الرشيد بطلها، فهي عديدة منها حكاية “قوت القلوب”، وحكاية الرشيد مع خليفة الصياد، وحكاية البنت العربية التي أنشدت أبياتًا أعجب بها ثم طلب منها تغيير القافية واستبقاء المعنى فغيرتها مرارًا في مقطوعات عجيبة فأعجب بها وتزوجها. وهناك حكايات أخرى لم يكن الرشيد فيها بطل الحكاية، لكنها تدور حول تجواله ببغداد متنكرا،مثل حكاية الشاب العماني الذي أضاع ثروته على الغواني، وحكايةمحمد بن علي الجوهري.
https://www.youtube.com/watch?v=pYoXhje5TiU
حكاية الجارية الحسناء والرشيد
من الحكايات التي جنح فيها الخيال الشعبي، حكاية الجارية الحسناء والرشيد وجعفر البرمكي والإمام أبو يوسف القاضي..
تقول الحكاية: إن جعفر البرمكي نادَم الرشيد ليلة فقال الرشيد: يا جعفر بلغني أنك اشتريت جارية حسناء شديدة الجمال فبعها لي،فقال جعفر: لا أبيعها يا أمير المؤمنين، فقد أقسمت أن العباسة أختك طالق ثلاثًا إن بعتها لك، فقال الرشيد: زبيدة طالق ثلاثًا إن لم تبعها أو تهبها لي. فقال جعفر: لقد اقسم بان أختك العباسة طالق ثلاثًا إن وهبتها لك… ثم أفاقا من نشوتهما وعلما أنهما وقعا في أمر عظيم، وعجزا عن تدبير الحيلة. فقال هارون الرشيد: هذه وقعة ليس لها غير أبي يوسف القاضي، فطلبوه…
فلما دخل عليهما، قال له الرشيد: ما طلبناك في هذا الوقت إلا لأمر مهم هو كذا وكذا، وقد عجزنا في تدبير الحيلة. فقال أبو يوسف: يا أمير المؤمنين إن هذا الأمر أسهل ما يكون، ثم قال: يا جعفر بع لأمير المؤمنين نصفها الأعلى بالأجل، وهب له نصفها الأسفل،فتبرآن بيمينكما، فسر أمير المؤمنين بذلك وفعلا ما أمرهما به، ثم قال هارون الرشيد: أحضروا الجارية في الوقت والساعة، فإني شديد الشوق إليها.
فاستوقفه جعفر وقال: مهلاً يا أمير المؤمنين فلم نتفق بعد على المبلغ الذي ستدفعه في نصفها الأعلى، فضحك الرشيد وقال: اطلب ما شئت يا جعفر، فقال: أريد وزن النصف الأعلى ذهبا، قال: وافقت، قال جعفر: وكيف نزن نصفها الأعلى دون أن يؤثر نصفها الأسفل في الوزن؟ قال الرشيد: هذا أمر بسيط، فلن أجادل في بعض الذهب الذي سيزيد نتيجة نصفها الأسفل، فقال جعفر: هذا لا يجوز فقد وهبت النصف الأسفل والوهبة لا تباع فاذا أخذت أي مبلغ نظير تأثير الجزء الأسفل في الوزن تبطل الصفقة، فقال الرشيد: ها قد عدنا إلى المربع الأول، ما الرأي يا أبا يوسف؟
قال أبو يوسف القاضي: يا أمير المؤمنين إن هذا الأمر أسهل ما يكون، قل يا جعفر لأمير المؤمنين، بعت لك النصف الأعلى بالأجل، ففعل جعفر، ثم سأل أبو يوسف: كم من الوقت حتى تسأم من الجارية يا أمير المؤمنين، فرد جعفر: أمير المؤمنين لا يطيق الصبر على أي جارية أكثر من أسبوع، فهتف أبو يوسف القاضي: إذن فسوف يحل الأجل عندما يسأم أمير المؤمنين من الجارية، أي بعد أسبوع….
قال جعفر وقد فقد صبره: هذا لن يحل المشكلة يا أبا يوسف، فما زال وزن نصفها الأعلى سيؤثر في وزن نصفها الأسفل، حتى عندما يحل الأجل. قال أبو يوسف: يا جعفر البرمكي، إن هذا الأمر أسهل ما يكون.. عندما يحل الأجل نقطعها نصفين، ونزن النصف الأسفل وحده، فلا يؤثر النصف الأسفل في وزن النصف الأعلى.
المصادر:
الحافظ الذهبي، سير أعلام النبلاء، الجزء التاسع، مؤسسة الرسالة للنشر، الطبعة التاسعة، 11413هـ
أحمد أمين، هارون الرشيد، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014.
أحمد فريد رفاعي، عصر المأمون، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013.
ابن كثير، البداية والنهاية
ابن الأثير، الكامل في التاريخ
الطبري، تاريخ الرسل والملوك