في ذكرى ميلاد الأديب والمفكر الراحل يحيى حقي، نلاحظ أنه في مقابل كل الصفحات التي سطرها النقاد عنه كرائد لفن القصة القصيرة ومبدع للروايات العظيمة، فإن”صاحب القنديل” لم ينل ما يستحقه من النقد السوسيولوجي باعتباره الأديب الذي سبق علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا إلى فهم أعماق الثقافة الشعبية للمصريين.
مذكراته الإجتماعية الأدبية
بالإضافة لقصصه ورواياته، تفرد حقي بنوع من الكتابة أقرب للوصف التفصيلي للبيئة الاجتماعية والتسجيل المباشر لرؤى الأهالى فى الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية المعاصرة، وهو أمر غير متاح بالطبع بالنسبة لتلك الفترات التاريخية الماضية التي كتب عنها حقي خلال القرن الماضي والتي تكون فيها النظام الاجتماعي والثقافي الأساسي للمجتمع المصري الراهن، أو كان متجليا فيها بشكل أكثر وضوحًا قبل دخول المؤثرات الحديثة والمعاصرة عليه لتخفي ملامحه الأساسية عن الباحث عن الشخصية المصرية .
من بين العديد من البيئات الإجتماعية في مصر والتي كتب عنها حقي، يركز هذا المقال على رؤية حقي لشخصية الصعيدي والبيئة الثقافية لمجتمع الصعيد تحديدا؛
فعلى الرغم من استيائه الشديد في البداية لاضطراره بعد وفاة والده لقبول “النفى الاختياري” للصعيد عام 1927 والقبول بوظيفة “معاون الإدارة”، إلا إنه بدأ يكتشف مع الوقت أن وظيفته الجديدة كانت أهم وظيفة إدراية في زمانه حيث كانت تلقي على عاتقه أعباء كافة الوزارات بخبراتها الحياتية المتنوعة مع الأهالي، لدرجة أنه اعتبر فترة عمله بالصعيد بمثابة أهم سنتين في مسيرته الفكرية والأدبية على الإطلاق .. ” أتيح لي أن أعرف بلادي وأهلها، وأخالط الفلاحين عن قرب، وأهمية هاتين السنتين ترجع إلى اتصالي المباشر بالطبيعة المصرية والحيوان والنبات، والاتصال المباشر بالفلاحين والتعرف على طباعهم وعاداتهم”.
على الرغم من أن هذه الفترة تعود لما يقارب القرن الكامل، إلا أن اللافت للنظر والذي يحتاج إلى تفسير حقا هو إحساس القارئ بأنه يقرأ أحداثًا وسلوكيات تبدو وكأنها تقع اليوم دون تغيير يذكر، مما يشير إلى قوة واستمرارية النظام الاجتماعي- الثقافي، ويفسر استمرار أمراض الصعيد المتأصلة مثل الثأر والتشدد الديني والفتن الطائفية، تلك الأحداث التي لا تزال تطل علينا- على حين غرة – من آن لآخر حتى اليوم.
رجولة ونخوة في مجتمع قاس
يصف حقي النمط العام الشائع لشخصية الصعيدي بأنه تعبير عن ” رجولة ونخوة وشهامة وجلد… قدرة- أشبه بالغريزة- على تناول الحياة حلوها ومرها كما تلقاهم ويلقونها، لا يفسد تمتعهم بها ابتلاء بالتهيب، والشكوى والملل وفراغة العين، والبحث في ملك اليد عما وراءه. ما سمعت منهم شكاية، ولا أحسست بهذا النازع الخبيث المستتر في النفوس الضعيفة لاستدرار العطف، حتى الباعة الجوالون من فقرائه المعدمين يمشون في عزة وكرامة كأنهم جُند في استعراض عسكري ظافر.. رؤوسهم مرفوعة.. كأن كل واحد منهم أمير في قومه “.
تعامل حقي مع البيئة الاجتماعية للصعيد في مصر على طريقة علماء الجغرافيا الاجتماعية، فيصفها ب”ضيق الأرض وقلة الزرع، حيث تتخطف الهجرة رجالها وشبابها إلى القاهرة والاسكندرية، فيترك الأب أبناءه وزوجه، والابن أمه وأباه، والعاشق حبيبته، طلبا للقمة العيش. أما أغانيهم فتمجد قيم الدفاع عن العرض والأخذ بالثأر… معظم بلاد الصعيد محرومة من الماء والنور… حياة خشنة صارمة، مجردة من الزينة … الليل في الصعيد كان له يد سوداء تغلق الأبواب عند غروب الشمس على الإنسان والحيوان” .
نظام أبوي صارم
المجتمع الصعيدي التقليدي هو نموذج لمجتمع تحكمه قواعد النظام الأبوي Patriarchy حيث ينشأ الأبناء- أولاد وبنات – على أنه “لا صوت يعلو فوق صوت الكبير.. كبير المنزل.. كبير الأسرة.. كبير البيت.. كبير العائلة”. ينتج هذا النظام تلك الثقافة الأبوية التي تنتشر في مصر وفي عالمنا العربي، وإن كان صعيد مصر هو نموذجها الأعلى. هي تلك الثقافة التي يصفها الدكتور هشام شرابي في كتابه التأسيسي ” النظام الأبوى وإشكالية تخلف المجتمع العربى” بأنها ” ثقافة العقل المغلق في وجه التساؤل… تفرض فكرا ونظام قيمة لا دور لأعضاء المجتمع (كأفراد) في تقريره، إنه نظام يتمتع بدينامية مستقلة يمكنه في آن من امتصاص قوي التغيير الاجتماعي الآتية من الخارج، ومن تعزيز قوى الانتماءات الداخلية (العائلية والعشائرية والطائفية)… أما سماته الأساسية فهي التخلف واللاعقلانية والعجز”.
الكرامة للعائلة .. لا للفرد
الجماعة القرابية هي المفهوم المركزي في النظام الاجتماعي- الثقافي التقليدي للصعيد، ويوحي اسم الجماعة القرابية الكبرى “البدنة” بتصور عضوي بيولوجي لبنية القرابة، “فالبدنة” – نسبة الى البدن أو الجسد – تنقسم الى عدد من العائلات، بينما تنقسم كل عائلة إلى عدد من البيوت، وكل بيت إلى عدد من الأسر، وتقوم هذه العلاقة العضوية على علاقة العصب التى تقتصر على الذكور، بينما تنسب النساء لعائلات وبيوت أزواجهن. وتكون الأولوية المطلقة في هذا المجتمع للحفاظ على قوة الجماعة القرابية (العضوية) وكرامتها ومكانتها والانتماء لها واحترام قواعدها وأعرافها مقارنة بأى اعتبار آخر.
في ظل هذا المناخ الثقافي الاجتماعي، تصبح قيمة الانسان- الفرد وكذلك كرامة الأسر والبيوت والعائلات ضعيفة “العزوة” محل تساؤل وشك. يرتبط مفهوم “العزوة” إذن بمفهوم “العصب”، إذ تقاس بعدد أفراد الأسرة والبيت والعائلة والبدنة من الرجال تحديداً، وبالتالي اتساع ملكيتهم من الأرض، وكلاهما يحدد النفوذ فى مجتمع الصعيد. في هذا المناخ وهذا النظام، يغيب مفهوم “الفرد” وحقوقه وكرامته بوصفه إنساناً، فلا كرامة لفرد أو لأسرة أو بيت ضعيف العزوة.
ويبدو أن هذه البنية الثقافية الاجتماعية هى امتداد طبيعي لتاريخنا الاجتماعي والسياسي الذي يعج بوقائع وضع المخالفين على الخوازيق والتمثيل بجثثهم. لا يقتصر إهدار الكرامة على الأفراد الأحياء المحرومين من العزوة، بل يمتد للأموات منهم أيضاً، فعلى الرغم من مخالفة هذه النزعة لتقاليد كل الأديان التى اتفقت على حرمة الأموات، يتعجب حقي من تلك البساطة والقسوة التي كان يقدم بها طبيب البندر على إجراء عمليات تشريح لجثث القتلى بشكل علني أمام الأهالي، وكيف أنهم كانوا يتقبلون ذلك دون امتعاض “!!
ثقافة العنف
يصف حقي “العنف” في الصعيد بأنه الملمح الأوضح والأكثر بروزاً في هذا المجتمع .. “إن رمزت للصعيد فبهذه (الشومة) – خشبها في صلابه الحديد- ..(ويلاحظ) .. أن حمام المومياوات في المتاحف من عصر طيبة عليه آثار وقع (الشومة) “. في قصة “سوق الجرائم” يصف لنا حقي الحياة اليومية المليئة بالقلق والرعب التي يعيشها أحد المطلوب دمهم في ثأر، ويتعجب كيف أنه في هذا الخوف المقيم ” يأكل ويشرب وينام.. فهو لا يخرج من داره قط بعد الغروب، ولا يخرج بالنهار إلا بين حارسين شحطين ملتصقين بجسده عن يمين ويسار، وعينه مع ذلك تجوب الأفق، قلقة، مستريبة، يشتد انتباهها عند المرور بجانب غيط أذرة… أية معيشة هذه ؟”. أما الآخر فوجد قتيلاً، وعندما ذهب كاتبنا معاون الإدارة لمعاينة جثته وجد تحت جلبابه “سكيناً نحيلاً مربوطة بقطعة من الجلد حول ساقه… توقعاًليوم أن يفاجئه عدوه فيصرعه… فيهوي للأرض، موهماً أنه انهزم، ولكن يده تمتد بخبث ومكر إلى هذه السكين، فيشدها ويدفنها في بطن غريمه المنتصر”. وكان مما لاحظه كاتبنا أيضاً كثرة البلاغات التي تنتهي عادة بطلب واحد هو أن تأخذ النقطة تعهداً على المشكو في حقه “بعدم التعرض له”.. ولكن حقي يلاحظ أن الشاكي حين يضع ورقة برقم المحضر في جلبابه ” أنه لا يأخذها كضمان لحياته، بل كضمان أن دمه بعد موته لن يضيع هدراً … هو يريد منذ الآن أن يطمئن على أنه قادر على الإنتقام وهو في قبره “.
رمزيات العنف .. الصبر
ويلاحظ حقي وجود بعض المصطلحات التي تعبر عن مفاهيم محددة في المجال الثقافي الرمزي للجريمة المرتبطة بالشرف على وجه الخصوص، سواء كانت دفاعا عن عرض أو أخذاً بثأر مستحق أو ثورة لكرامة، ولعل أهمها مصطلح “الصبر”؛ فمثل هذه الجرائم لا تسقط مع الزمن، فالقاتل يصرف عمره في تتبع الضحية وهي تفر أمامه من بلد إلى بلد. ويلاحظ هنا أن الصبر قد يكون للعثور على الضحية أو لاستكمال الشروط العملية اللازمة أو لاختيار توقيت معين للثأر يكون مفعماً بالرمزية والدلالة، كما حدث في مجزرة بني علام حين قرر أصحاب الدم أخذ ثأرهم بأياديهم يوم نطق المحكمة بأحكام بالبراءة وأخرى مخففة قبل عشرين عاما. ويتحاكي أهل الصعيد بقصة في تراثهم عن رجل “قُتل له ابن في ريعان شبابه في جمعة طلبه للجهادية، ولم يكن لغريمه ذكر يُثأر منه سوى صبي يلعب، فصبر عليه، الى أن جاء ميعاد فرزه، فرماه بالرصاص”.
الكرو .. الحماية
تواجه الجماعة القرابية الصغيرة الضعيفة أزمة طاحنة إزاء طغيان العائلات القوية عليها، سواء باستيلائها على أرضها أو إهانة كرامتها ويصل الأمر إلى حد الأزمة الحقيقية حال وجوب الأخذ بالثأر من هذه العائلات القوية.. هنا تظهر ظاهرتان: الأولى هي ظاهرة “الكرو” أي دفع المال لأحد المجرمين العتاة للأخذ بثأرهم (رغم أنه أمر مخجل للصعيدي ولكنه لا مفر منه أحيانا)، أما الثانية فتتمثل في اللجوء الى جماعة ما من المجرمين الأقوياء للاحتماء بهم حال اشتداد طغيان العائلة الكبيرة عليهم وفى هذا السياق، سبق أن لاحظ بعض الباحثين كيف استغلت “جماعات التشدد الديني …(هذه) العلاقات المتشابكة في تركيبة أبناء الصعيد واقتصادياتهم ونفسياتهم.. حيث وفرت هذه الجماعات الحماية لمن لا حماية لهم من أبناء العائلات الضعيفة”وأن العنف المتبادل بين جماعات التشدد الديني و الحكومة قد اتخذ في بعض الأحيان شكل الثأر وتقاليده في الصعيد.
من “العائلة” إلى “الجماعة”
ونظن أن افتراض وجود علاقة ثقافية من نوع ما بين تشدد النظام الاجتماعي الأخلاقي والثقافى في الصعيد وبين التشدد الديني أو بين نظام الثأر في الحالتين هو افتراض جدير بدراسة متعمقة جادة، ولا يسعنا في هذه العجالة سوى الإشارة إلى تشابه بعض الطقوس فيما يخص الثأر في الحالتين وهو ما يتعلق برمزية إطلاق اللحية، فبمجرد دفن القتيل (في صمت) تبدأ مجموعة من الطقوس… “يترك الشباب لحاهم (وهو طقس يشير إلى شدة الحزن والعزوف عن الدنيا والكمون الذي يسبق انطلاق العاصفة للأخذ بالثأر) ويخلع بعض رجال العائلة – وخاصة ولي الدم منهم- عمامته البيضاء ويبدلها بشال أسود لأنه لم يعد معدوداً من بين الرجال حتى يأخذ بثأره” فيحق له ارتداء عباءته البيضاء مرة أخرى مستعيداً رجولته ونخوته الأولى.
المصادر:
*هذه السلسلة من المقالات (عن قراءة يحيى حقي لأبعاد الشخصية المصرية) هى نوع من إعادة الكتابة الصحفية استفادت من المادة العلمية التي سبق جمعها ونشرها في دراسة مطولة للكاتب. للمزيد حول الموضوع يمكن الرجوع للدراسة الكاملة:
– فؤاد السعيد، الشخصية الصعيدية في مذكرات يحيى حقي الأدبية، مجلة أحوال مصرية (مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية – القاهرة)، (دراسة العدد)، يناير 2014.
1-يحيى حقي، مجموعة: “خليها على الله” (وهي مذكراته).
2-يحيى حقي، مجموعة “دماء وطين”.
3-يحيى حقي، مجموعة “أم العواجز
4- محمد العسيرى ، ثلاثية الثأر والهجرة والبطالة ، مجلة وجهات نظر ، القاهرة ، العدد 54 ، اكتوبر 2002