في رحلة بحثه عن الشخصية المصرية، لم يتبع أديبنا ومفكرنا الكبير الراحل يحيى حقي تلك الطريقة المعتادة الذي يتبعها معظم مفكرينا، أقصد القفز مباشرة إلى إطلاق التعميمات النظرية التي يعتقد المفكر أنها تعبر عن جوهر تلك الشخصية، بل سلك طريقا مختلفا تماما.
كفنان أصيل معجون بتراب الشعب المصري وثقافته، اختار حقي – بشكل تلقائي على الأرجح – ذات الطريق الذي يفضله علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وهو أن يبدأ ببساطة من المجتمعات المحلية التي عايشها وخبر طرق أهلها في التعاطي مع الحياة، وهو ما يسميه هؤلاء العلماء بالشخصية الإقليمية، فلسكان كل إقليم جغرافي – رغم الفروق الفردية – ملامحهم الخاصة التي تميز شخصيتهم عن غيرهم كالشخصية الريفية والبدوية وشخصية أهل المدن، أوالشخصية الصعيدية وشخصية أهل بحري والإسكندرانية أو أهل القناة …إلخ
يحاول هذا المقال إبراز ما التقطه يحيى حقي – بموهبة فنان ومهارة جراح – من خصائص تميز الفلاح المصري لتشكل ملامح ما يمكن أن نسميه – بقدر من التعميم – “الشخصية الريفية المصرية”.
على العكس من الشخصيات الإقليمية العديدة في أنحاء مصر، تكتسب الشخصية الريفية أهمية خاصة باعتبارها البوابة أو نقطة الانطلاق الأولى والضرورية لفهم الشخصية القومية المصرية على وجه العموم .. تاريخيا بدأت الحياة في مصر في الأرياف قبل الانتقال للمدن، ووفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لا تزال النسبة الأكبر من السكان تعيش في الأرياف مقارنة بالمدن حتى 2020 (57.2٪ في مقابل 42.8٪)، وحتى المصريين المعاصرين من ساكني المدن فإن النسبة الأكبر منهم تربوا لآباء وأمهات أو لأجداد انتقلوا من الأرياف للمدن حاملين معهم قيمهم الأساسية التي نقلوها لأبنائهم مع بعض التعديل والتحديث، وهو ما يفسر قوة ورسوخ منظومة القيم وتوارثها عبر الأجيال ليس في مصر وحدها ولكن في مثيلاتها من الحضارات النهرية أيضا كالصين وبلاد الرافدين وغيرها . هذا ما اكتشفه علم الاجتماع السياسي الحديث نتيجة تراكم عشرات الدراسات التاريخية والميدانية التي طبقت على العديد من هذه المجتمعات.
“عوف الله” .. النيل جنة على الأرض
والعجيب هنا أن يحيى حقي كان قد أدرك هذا الاستنتاج العلمي الحديث بحدسه الثقافي والفني مبكرًا حين أكد استمرار وتوارث الرمزية الثقافية العميقة “للنيل” كمصدر للحياة والعيش الهانئ المستقر حتى عند الأجيال الجديدة التي لم تعش على ضفافه ولم تعرف الزراعة ولا استشعرت مفهوم “البركة” المصاحب لوفرة الحصاد.
في مجموعته القصصية “دماء وطين” يتذكر حقي كيف كانت حارتهم تستيقظ فجأة ذات صباح من سباتها على ” نداء غريب.. لا نسمعه إلا مرة واحدة كل عام ولا نفهم معناه : عوف الله .. عوف الله … يزعم البعض أنه تحريف لاسم “أوفيليا” – “إلهة الماء” عند الإغريق – فنعلم أن النيل قد وفي بوعده وفاض بالخير، وتنبعث فينا نحن صبية المدينة- ولا شأن لنا بالزرع والري- هزة فرح لا نعرف سببها”(1)
بدوره انطوى النيل تاريخيا – قبل السد العالي – على تناقض كبير، فهو لم يكن مستقرا في تدفقه، بل لم يكن من الممكن توقعه، وما بين كفاية مياهه وشحها المحتمل وما بين تحولها من الندرة إلى الفيضان العاتي الذي يدمر في طريقه البشر قبل الثمر .. ما بين كل هذه التناقضات السارة حينا والحزينة أحيان أخرى، تشكلت شخصية الفلاح المصري ورؤيته للطبيعة – والحياة الاجتماعية أيضا – باعتبارها محيط غير مأمون العواقب، فالوفرة والاستقرار والشعور بالأمان بالنسبة للمصري مجرد شعور مؤقت سرعان ما يزول، لحظة استثنائية عابرة ينبغي الاستمتاع بها – لدرجة المجون أحيانا – وربما يفسر ذلك حالة الاستدراك السريع الذي يعرفه المصريون عندما يبالغون في مشاعر الفرح حين يقطع أحدهم ضحكاتهم فجأة .. “خير آللهم أجعله خير”، كما يفسر لماذا تنتشر الأغاني التي تعبر عن هذا المعنى في أوساط المصريين وتستمر من ” الدنيا ريشة ف هوا .. طايرة بغير جناحين” حتى “الدنيا زي المرجيحة .. يوم تحت وفوق” و “آه لو لعبت يا زهر” وغيرها من التعبيرات الفنية المعبرة عن عشوائية الحياة ودور القدر والصدفة والحظ فيها، وصعوبة إدراك قوانين ثابتة منتظمة لها تمكن الإنسان من التحكم في مصيره بوعيه وإرادته، وهى نفس الرؤية التي يمررها العديد من علماء الدين والدعاة الجدد بحسن نية في كثير من الأحيان.
فى قصة “حصير الجامع” يلمح حقي ببراعة إلى ذلك الإدراك للتناقض الوجودي في الحياة في إدراك الفلاح المصري بين الشعور بضعف الإرادة والإيمان العميق بأن مصيره ومصير رزقه ليس في يده بل يتوقف على القضاء والقدر، وبين مشاعر الشعور بامتلاك الدنيا والغرور الأجوف بمجرد امتلاكه للرزق .. “يدفن الفلاح البذرة وقلبه وجل: هل تنبت أم تتعقن وتموت؟ ومرجع هذا ليس إليه بل إلى الله.. فيقف خاشعا… كله رضا… لا يطلب – الآن – إلا شيئا واحدا، أن يهبها الله من نفحاته… ويخرج منها بصيصا أخضر… يرمق النبت مشفقا… لله مرة ثانية التفاته ودعاؤه: يارب… يصبح الساق عودا صلبا، ولكن ماذا تفعل قوة الشباب أمام الآفة المهلكة… هل تتفتح أم يغيض ماؤها؟ وهكذا دورا وراء دور ( ولكن هذا الفلاح نفسه ) ما يكاد المحصول يتجسم أمام عينيه حتى ينسي خشوعه وخضوعه… لا يقف جشعه عند حد… عينه ليست على الله ومعونته، بل على أسعار البورصة وأخبارها… تتيقظ في نفسه روح المناجزة والمصادمة يقف على رأس غيطه وليس أسرع منه للعداء والهجوم… لا يبلع ريقه إلا إذا دخل الكيس منزله، وعند قبض الثمن تربكه النقود ويحتار ماذا يدفع وماذا يبقى، ولا يستفيق إلى نفسه إلا وهو صفر اليدين… كما بدأ انتهى”(2).
في شهر ميلاده، رحم الله يحيى حقي ابن مصر البار الذي لمس روح شعبها واقترب منه كما لم يفعل غيره من مفكريها الكبار.
الهوامش:
(1) يحيى حقى ، مجموعة “دماء وطين ” ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1994 ، صـ5.
(2) يحيى حقى ، حصير الجامع ، مجموعة ” أم العواجز “، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 2000 ، ، صـ182-183.