ثقافة

عبد الله النديم: المناضل الأديب صاحب «التنكيت والتبكيت»

«عربي الجنس حسني النسب إسكندري المولد والمربَى إسلامي الدين أشعري العقيدة شافعي المذهب خلوتي الطريقة مصري الوطن» .. هكذا قدم رائد النهضة العربية عبد الله بن مصباح بن إبراهيم الإدريسي الشهير بلقب عبد الله النديم نفسه بكتابه «كان ويكون» لكنه في تقديمه هذا غفل عن دوره كمناضل سياسي رافق الزعيم الوطني أحمد عرابي في ثورته واشعل بخطبه الرنانة حماس شعب مصر كما غفل عن دوره في مقاومة الإحتلال الإنجليزي وكأديب خط النثر والزجل والشعر والمقالات الوطنية ذات الطابع الحماسي إلى جانب دوره في الدعوة لضرورة إصلاح الأزهر وخاصة بمجال التدريس وغيرها من الدعوات التي جلعت منه أحد رواد النهضة العربية.

الدكتور علاء الدين محمود الباحث المتخصص بمجال الأدب المقارن أمضى سنوات عدة بحثا وتنقيبا بأمهات الكتب والدوريات العلمية والأرشيف الصحفي في محاولة لجمع تراث رائد النهضة العربية عبد الله النديم الشعري والنثري إلى جانب رسائله للزعيم أحمد عرابي في منفاه وما خطه من مقالات صحفية ورسائل أدبية ومسرحيات وضم هذا التراث الثري في جزئين صدرا عن «دار المرايا للإنتاج الثقافي» حمل الجزء الأول عنوان: «نصوص عبد الله النديم .. الديوان الشعري» وصدر الجزء الثاني تحت عنوان: «نصوص عبد الله النديم .. الآثار النثرية الكاملة».

نصوص عبد الله النديمجاء الجزء الأول مصحوبا بمقدمة مطولة حاول من خلالها الدكتور علاء الدين محمود تقديم قراءة أولية لذلك السياق الإجتماعي والثقافي والتاريخي الذي كتب فيه عبد الله النديم أعماله وطبيعة الأثر الثقافي الذي تركه الأزهر على النديم ودعوته المستمرة وشيخه حسن العطار لضرورة إصلاح الأزهر ولا سيما في مجال التدريس إضافة لعرض أهم ملامح السيرة الذاتية للنديم وطبيعة المؤثرات والمدارس الشعرية التي أثرت على تراثه الشعري.

سيرة ومسيرة

استهل الدكتور علاء الدين محمود تقديمه لسيرة عبد الله النديم بالإشارة إلى ذلك الجدل الذي دار حول مدى صحة إنتسابه لآل البيت مشيرا إلى أن صديقه المعروف بالكاتب أحمد أفندي سمير في تقديمه لكتاب «سلافة النديم في منتخبات السيد عبد الله النديم» انتهى إلى أن نسب النديم يعود إلى الحسن السبط ابن الإمام علي بن أبي طالب وهو ما كان قد أكد عليه النديم ذاته في قصائده التي خاطب بها الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم والإمام علي بن أبي طالب.

ولد عبد الله النديم في العاشر من ديسمبر سنة 1845م بأحد الأحياء الشعبية بمدينة الأسكندرية وكان والده يعمل نجارا بالترسانة البحرية التي أسسها محمد علي باشا لبناء سفن الأسطول المصري غير أن صدور فرمان 1841 وما نجم عنه من قرارات تتعلق بتقليص أعداد جنود الجيش المصري وما تبعه من إغلاق للمصانع الحربية ومنها دار الصناعة بالإسكندرية أدى لفقدان الوالد لعمله ما دفعه لإفتتاح مخبزا يكفل له العيش الكريم.

تلقى النديم تعليما دينيا منذ نعومة أظافره ففي الخامسة من عمره ارسله والده لحفظ القرآن الكريم «بالكتاب» وحين اتم حفظه وهو في التاسعة واظب على حضور دروس مسجد الشيخ إبراهيم باشا بالإسكندرية الشهير بالجامع الأنور الذي كان يتبع مؤسسة الأزهر وينهج نهجها في تعليم الصبية تحت رعاية شيخه وأستاذه محمدالعشري الذي كتب فيه النديم بعد أن ذاع صيته ونال شهرته: «غلامك الشهير بالنديم .. من صار في البينان كالنسيم .. وكيف لا يكون لساني قوس البديع وكلامي السهم السريع وأنت باريه وراميه، أم كيف لا يكون مقاصي الحصن المنيع وقدري العزيز الرفيع وأنت معليه وبانيه، فوجه جمال العلم أنت غرته وإنسان عين الحلم أنت قرته وحاليه وجاليه وجبين العقل أنت طرته وكتاب الفضل أنت صورته وطاليه وتاليه».

التصق لقب النديم بعبد الله بن مصباح حتى نسى الناس اسمه الحقيقي نتيجة شغفه بعالم الأدب ومجالسة الشعراء والأدباتية وحين بلغ والده أنه صار في طريق أهل الأدب والشعر غضب عليه ذلك أنه كان يعده ليكون من رجال الدين وانتهى الخلاف بينهما بأن خيره والده ما بين أن يواصل تعليمه الديني أو يتكفل بإعالة نفسه كاملا فاختار النديم أن يتكفل بنفسه كاملا كي يتمكن من التفرغ لعالم الأدب.

غادر النديم مدينة الإسكندرية متجها للقاهرة ونزل ضيفا على صديق له يُدعى عبد العزيز بك حافظ وكان يعمل مفتشا بالسكك الحديدية ولكي يعيل نفسه تعلم طريقة إرسال التلغراف والتحق وهو ابن السابعة عشر من عمره بمركز تلغراف بنها وحين برزت كفاءته في العمل تم نقله إلى القاهرة بمكتب تلغراف القصر العالي مقر الأميرة خوشيار خانم أفندي أم الخديو إسماعيل.

«لواء النصر في أدباء العصر»

عرف النديم حياة القصور من خلال عمله بمجال التلغراف بقصر الوالدة باشا واستطاع أن يقف على مظاهر البذخ التي ينعم فيها سكان القصور وهو ما دفعه للمقارنة بين ما شاهده بتلك القصور من بذخ العيش وما يعانيه عامة الشعب من بؤس وشقاء وفقر وعلى الجانب الآخر وعبر معايشته لحياة القصر تعرف النديم على مجالس المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء ومن بينهم مجلس الشيخ أحمد وهبي الطرابيشي الذي قدمه لنخبة من أبرز أدباء عصره وهم محمود سامي البارودي وعبد الله باشا فكري والشيخ علي أبو النصر والشيخ أحمد الزرقاني ومحمد بك سعيد ومحمود صفوت الساعاتي الذين كتب عنهم أولى رسائله الأدبية التي جاءت تحت عنوان «لواء النصر في أدباء العصر» .. بهذا صار النديم يقضي نهاره «تلغرافيا» وفي مساء يصبح ذلك الأديب الذي يجالس الأدباء يستمع إليهم ويحاكيهم فيما ينشدون.

عبد الله النديمتمكن النديم نتيجة إقامته بالقاهرة من مواصلة تعليمه الأزهري حيث واظب على حضور دروس كبار شيوخ الأزرهر ومن بينهم دروس الشيخ محمد الإنبابي الذي صار شيخا للأزهر فيما بعد كما واظب على حضور مجلس الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي ربما تسبب حضور مجلسه في فصله من عمله بقصر الوالدة باشا.

تخللت دروس جمال الدين الأفغاني في «الفلسفة والإجتماع والأدب» نقد أحوال مصر الإجتماعية وأسباب ضعفها وطبيعة حكامها ومدى إستبدادهم إلى جانب حديثه عن مثالب الإستعمار البريطاني وبهذا بدأت رحلة النديم النضالية بتلك الرابطة الوثيقة التي ربطت بينه وبين الأفغاني والتي ظل أثرها حاضرا حتى وفاة النديم.

النديم يعود إلى مدينته .. ويؤسس «التنكيت والتبكيت»

عاد النديم إلى مدينة الإسكندرية ليخوض غمار رحلة جديدة من نوعا جديد حيث سعى لتأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية بالإسكندرية سنة 1879 ومن خلالها تم تأسيس مدرسة «الجمعية الخيرية الإسلامية» لنشر التعليم الوطني بين «الولاد والبنات» بذات العام وتولي أعمال نظارتها إلى جانب تشجيع تلاميذها على اتقان فن الخطابة وتأسيس فريق للتمثيل قدم عدد من العروض المسرحية كان أشهرها تلك المسرحية التي كتبها النديم ذاته وحملت عنوان «الوطن وطالع التوفيق» التي تم عرضها على مسرح زيزينيا بالإسكندرية وحضر عرضها الخديو توفيق وعدد من كبار رجال الدولة آنذاك.

اعتمد النديم في طرح رؤيته النهضوية على الخطابة والكتابة الصحفية وكانت بدايته بصحيفتي مصر والتجارة ذات الصلة بشيخه جمال الدين الأفغاني ومع إغلاقهما عقب صدور أمر من الخديو توفيق بالقبض على الأفغاني ونفيه من مصر انتقل النديم للكتابة بصحيفتي «المحروسة» و«العصر الجديد» اللتين كان يرأس تحريرهما آنذاك سليم النقاش.

اتخذ النديم من الجمعية الخيرية بالإسكندرية وعبر أنشطتها المختلفة منبرا لإلقاء خطبه ومع تصاعد الخلاف بينه وبين مجلس إدارتها سعى نحو تأسيس صحيفته الخاصة «التنكيت والتبكيت» لتصبح منبره الدائم لتوصيل رسائله ومن ثم صدر العدد الأول من الصحيفة في 6 يونيو 1881 بالإسكندرية وطبع منها ثلاثة آلاف نسخة وبذلك خطى النديم أولى خطواته الحقيقية نحو مسيرته النهضوية.

التنكيت والتبكيتهاجم النديم العادات القبيحة التي تسربت إلى المجتمع المصري مستندا على أسلوب الفكاهة والتنكيت وذاع صيت الصحيفة وانتشرت بربوع مصر حيث قرأها المتعلمون واستمع إليها الأميون بالمقاهي كما كانوا يفعلون مع قصص البطولة والسير الشعبية وبالفعل تمكنت «التنكيت والتبكيت» من تحقيق الهدف منها والمتمثل في الوصول لأوسع جمهور ممكن. غير أن «التنكيت والتبكيت» لم تدم طويلا حيث كان العدد التاسع عشر هو العدد الأخير منها حين كتب النديم مقاله «زفاف الحرية في مصر» تعقيبا على مظاهرة عابدين في 9 سبتمبر 1881 التي وقف فيها أحمد عرابي على رأس ضباط الجيش المصري بساحة قصر عابدين ليقدم للخديو توفيق مطالب الشعب والجيش ما جعل عرابي يختار تلك الصحيفة لتصبح لسان حال الثورة والثوار على أن يستبدل اسمها «بلسان الأمة» غير أن النديم فضل أن يكون اسمها «الطائف» لكونه كان قد دائب على الطواف بربوع مصر.

عقب هزيمة العرابيين واحتلال الإنجليز مصر وإعتقال عدد كبير من كبار الضباط المرتبطين بثورة عرابي لاحقت السلطات البريطانية والمصرية الموالية لها عبد الله النديم إلا أنه تمكن من الهرب لمدة تسع سنوات كاملة حتى أرشد عنه أحد الطامعين في تلك المكافأة التي رصدت لمن يدلي بأي معلومات عنه وتم القبض عليه في أواخر 1891 ومن ثم صدر قرارا بنفيه إلى مدينة يافا بالشام وظل مقيما بها حتى صدور عفو الخديوي عباس حلمي الثاني عنه في 1892.

الخديوي عباس حلمي
الخديوي عباس حلمي

عاد النديم وتمكن أخيه عبد الفتاح من الحصول على تصريح خاص بصدور مجلة «الأستاذ» التي تولى النديم تحريرها وصدر العدد الأول منها نهاية شهر أغسطس 1892 ونالت «الأستاذ» حظها الكبير من الشهرة واقبل الناس عليها حتى أن صحيفة «التايمز» ذكرت في 19 مارس 1893 أن «الأستاذ .. كانت أوسع الجرائد الوطنية إنتشارا».

شجع الإنتشار الواسع لمجلة «الأستاذ» عبد الله النديم على أن يزاوج في تحرير المجلة ما بين العامية المصرية والعربية الفصحى ومع علو سيط المجلة شعر اللورد كرومر بخطر النديم وقدرته الكبيرة على شحذ همة الشعب المصري ودفعه نحو القيام بثورة أخرى ومن ثم اتخذ كرومر قراره بإغلاق المجلة التي صدر آخر عدد منها في 13 يونيو 1893 وتم نفي النديم مرة ثانية إلى إسطنبول حيث توفي بعيدا عن أرض الوطن سنة 1896 بعد أن ترك تراثًا أدبيا ثريا ونموذجا للمناضل النهضوي الذي مازال الباحثين على إختلاف تخصصاتهم يبحرون داخل عالمه الثري بحثا عن الجديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock