تأتي الفرصة لمن يستحقها ،ويضرب الحظ موعدا مع من يسعى ويجد في سبيل حلمه، ويحالف التوفيق من يثابر ولا ييأس، لكن هناك صدفة ، تكون خير من ألف ميعاد وألف تخطيط، صدفة تجمع بين الحظ والتوفيق في آن واحد، هي الصدفة التي كانت قاسما مشتركا في بدايات كثيرين من نجوم وعمالقة الفن المصري، صدفة غيرت المسار وفتحت الطريق، وكانت مؤشرا قدريا على أن هؤلاء الذين جاءتهم الصدفة والفرصة سيكونون نجوما كبارا تتهافت عليهم الأضواء ويناديهم المجد ويخلدهم التاريخ.
الملهم
الصبية الصغيرة أم كلثوم ابنة الرجل المعمم المؤذن والإمام الشيخ ابراهيم البلتاجي.. تلك التي كانت تغني في قرى محافظة الدقهلية ، كان صيتها وصوتها ذائعا في قرى الدقهلية تغني وتحيي الأفراح والموالد يرافقها والدها وشقيقها الاكبر خالد ،لم تحلم يوما بأكثر مما كانت عليه ، لم يراود خيالها أن تكون يوما ما نجمة تتهافت عليها الأضواء ويعرفها العالم بوصفها أشهر مطربة في تاريخ الغناء العربي ، ربما كان طموحها وقتها أن يذيع صيتها أكثر في قرى ومحافظات مجاورة ، وأن يزيد أجرها قليلا كي توسع في المعيشة والرزق على أسرتها الصغيرة، لم تكن تحلم بواحد في المليون مما حققته بعد ذلك من مجد تجاوز حدود مصر والعالم العربي إلى العالم كله، هي بالتأكيد كانت تعرف أنها تتمتع بالموهبة في الغناء ، وأنها تتمتع بحنجرة لا مثيل لها ، لكنها ابنة قرية صغيرة وأسرة فقيرة وبسيطة فأنى لها أن تذهب بموهبتها لتغني في القاهرة فيسمعها الناس جميعا ويعرفها أهل الفن وكباره؟ كانت أم كلثوم شديدة الانبهار بصوت الشيخ “أبو العلا محمد” سيد الملحنين وعمدة المغنين في بداية القرن العشرين ..بقدراته الصوتية واللحنية الكبيرة ، بطقطوقاته واناشيده وغنائه الشجي وألحانه الرائعة وقد كانت بداية تعرفها على صوت ابي العلا حين سمعته في فونوغراف يمتلكه عمدة طماي الزهايرة يغني “أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا ” .. اكتشفت أم كلثوم مناطق جديدة في الغناء وتعلمت معاني مختلفة وأدركت أن الإحساس هو من اهم ما يجب أن يتحلى به المغني وأن فاقد الاحساس لا ينجح في الغناء وهو الدرس الأول الذي تعلمته من المداومة على سماع أأغاني “أبو العلا محمد” وقد ذكرت هي ذلك بالتفصيل حين روت ذكرياتها للصحفي الكبير محمود عوض الذي أوردها في كتابه “أم كلثوم التي لا يعرفها أحد” قالت أم كلثوم : كنت أغني بلا احساس وأردد الغناء كما يردد التلميذ جدول الضرب حتى سمعت أغاني الشيخ أبو العلا محمد ..وكانت أم كلثوم تتحين الفرص للذهاب إلى دوار عمدة قريتها لتسمع أكبر عدد من أغاني ملهمها الذي لم يخطر على بالها أنها ستلتقيه يوما ما وأنه سيكون سببا في إطلاق نجوميتها للعالم كله ..بل كانت تعتقد أنه رحل عن الدنيا ، ولم تحاول حتى أن تسأل والدها عنه ، .. و تمنت أم كلثوم أن لو عاش الشيخ أبو العلا ليسمعها دون أن تدري أن أبا العلا حي يرزق وأن القدر سيفتح لها طاقة القدر و سيرتب لها أهم صدفة في حياتها .. صدفة غيرت مسارها تماما وفتحت لها باب المجد من أوسع أبوابه.
لقاء في محطة القطار
في أحد أيام أواخر عام 1923 أحيت أم كلثوم فرحا في إحدى القرى التابعة لمركز السنبلاوين ، انتهى الفرح ولما طلعت شمس اليوم التالي وتقاضت أم كلثوم أجرها الزهيد ، وبصحبة والدها الشيخ ابراهيم اتجهت إلى محطة القطار السنبلاوين لتعود إلى قريتها القريبة ، وأثناء انتظارها على رصيف المحطة سمعت جلبة ورأت عددا من المسافرين يحيطون بشيخ معمم وذهب والدها لاستقصاء الأمر لتفاجأ به ابنته وقد عاد اليها سريعا بوجه متهلل ليقول لها : الشيخ ابو العلا محمد هنا على المحطة .. كان أبو العلا قد أحيا مع فرقته حفل زفاف عروس من أسرة عريقة مجاورة للسنبلاوين وبات ليلته هتاك ثم ركب حمارا إلى محطة السنبلاوين ليستقل القطار عائدا إلى القاهرة .. ولم تصدق الصبية الصغيرة التي كانت في عامها السادس عشر آنذاك أذنها وسألت أباها : هو الشيخ أبو العلا لسة عايش وبيغني .. أنا كنت فاكراه مات ؟ وفي ثواني قليلة اخترقت أم كلثوم الجمع المحيط بالشيخ ابى العلا لتقدم نفسها إليه : أم كلثوم ابراهيم البلتاجي .. مغنية .. ولن أتركك يا شيخ ابو العلا الا حين تسمعني وتسمع غنائي .. وأنا مش مصدقة نفسي اني قابلتك .. وتعجب الشيخ ابو العلا من اصرار هذه المغنية المبتدئة على أن تسمعه صوتها .. ولم تبال الفتاة الصغيرة بكل اعتراضات ملهمها الكبير وأضافت له : انت ضيفنا النهاردة في طماي الزهايرة .. هتتغدى عندنا وتسافر القاهرة ان شاء الله .. وأمام توسلات أم كلثوم رضخ الشيخ ابو العلا واستجاب لها وترك مرافقيه يسافرون الى القاهرة واستقل القطار مع أم كلثوم ووالدها الشيخ ابراهيم البلتاجي إلى طماي الزهايرة.. في بيتهم البسيط وبينما الشيخ أبو العلا محمد يجلس مع الشيخ ابراهيم يتحدثان في الفن والغناء ، كانت أم كلثوم تقول لأمها بأعلى صوتها وهي في قمة الفرح والسعادة : ادبحي كل الفراخ اللى عندنا في البيت ..هاتي فراخ الجيران وجيران الجيران وادبحيها .. النهاردة عندنا أهم انسان في حياتي ..وكأن أم كلثوم كانت تستشرف المستقبل وكأنه انكشف لها الحجاب وهي تقول النهاردة عندنا أهم انسان في حياتي .. فقد صحت مقولتها البسيطة وصدقت .. وحقا كان ابو العلا محمد هو أهم انسان في حياة أم كلثوم .. جلس الشيخ ابو العلا في بيت الشيخ ابراهيم البلتاجي منصتا بكل اهتمام ومصغيا السمع وفاتحا إذنيه لهذا الصوت البكر العظيم .. تسلطنت ام كلثوم وهي تغني وتسلطن ابو العلا محمد وهو يسمع ويستزيد ويعبر عن اعجابه وانبهاره بهذا الصوت القوي الفريد ..ثم يطلب من أم كلثوم أن تستريح قليلا لينظر إلى والدها الشيخ ابراهيم البلتاجي بغضب قائلا :إزاي تدفن البنت هنا .. إزاي تسيب الصوت العظيم ده مدفون بعيدا عن مكانه الطبيعي في القاهرة .. البنت دي لازم تنزل مصر في أسرع وقت وأقرب فرصة.
المعلم الأول وصانع النجومية
لم تكذب ام كلثوم خبرا ، فقد أعطاها أستاذها ومعلمها جواز المرور بشهادته الكبيرة لصوتها المتفرد .. وفي غضون أيام قليلة كانت أم كلثوم في القاهرة .. وهنا يتبدى الدور الهائل الذي لعبه ابو العلا محمد في حياة أم كلثوم وفي بداياتها .. حجز لها ولأبيها غرفة في أحد الفنادق بشارع فؤاد . ثم بدأ يعطيها دروسا شديدة الاهمية في الغناء وفي نطق الحروف وفي كيفية التعبير بالاحساس وفي كيفية الحفاظ على الصوت وتمرينه وتدريبه وتقويته كما نصحها بضرورة الاتجاه للغناء العاطفي بعد أن كانت تقدم التواشيح الدينية فقط لتصبح أم كلثوم مدينة بفضل عظيم لأبى العلا محمد في مشوارها وتاريخها الغنائي العظيم.. وعن طريق ابى العلا محمد أحيت أم كلثوم أولى حفلاتها في القاهرة إذ قدمها لتشارك في الحفلات الغنائية التي كانت تقدم على مسرح الماجستيك وأصبحت تقدم حفلها على الماجستيك كل يوم ثلاثاء اسبوعيا وأقنع أبو العلا محمد أم كلثوم بأن تتخلى عن العقال والملابس البدوية وأن ترتدي ملابس حديثة وأطلق أبو العلا علىها لقب صاحبة العصمة.
وحقك أنت المنى والطلب – بصوت أبو العلا محمد ويليه صوت تلميذته أم كلثوم
وقد لحن ابو العلا محمد الذي كان له فضل تحرير اللحن من سطوة المطرب وكان له فضل ان جعل مطربي ذلك الزمان يلتزمون بالنوتة اللحنية لحن لام كلثوم عددا من الأغاني والموشحات قال البعض إنها اقتربت من الثلاثين أغنية وموشحا وإن كانت الأغاني المعروفة التي تم إحصاؤها هي سبعة فقط أهمها الصب تفضحه عيونه وحقك أنت المنى والطرب .. ويقال ان أم كلثوم أحبته حبا حقيقيا وانها اعتبرته الرجل الاول في حياتها ولما رحل في اوائل يناير عام 1927 بعد أن تناول كمية هائلة من الحلاوة الطحينية وكان مصابا بالسكر ومن شدة صدمة أم كلثوم وحزنها مشت في جنازته حافية القدمين . ويقال انها رفضت الزواج من ابنه جلال فقد كان حبها كله موجها للشيخ ابى العلا صاحب الفضل الأكبر عليها ، وقد اعترفت بفضله في أكثر من مناسبة ومن حديث وقالت إنه أعظم وأفضل صوت سمعته في حياتها ، ويمكن القول أن الشيخ ابا العلا كان اول ميكر ستار او صانع نجم في تاريخ الفن العربي ، فإليه يرجع الفضل في اكتشاف عبقرية ام كلثوم .. التي انفتح لها باب المجد واسعا .. وعن طريق رجل كانت تظنه ميتا.