لم تكن “أمام العرش” التي أبدعها اديب مصر الاشهر الراحل نجيب محفوظ رواية بالمعنى التقليدي أو المتعارف عليه للكلمة وانما هي كما وصفها صاحبها “حوار بين الحكام”.
تصور محفوظ محاكمة لحكام مصر المتتابعين منذ فجرتاريخها كدولة نظامية موحدة وحتى العصر الحديث٫ واستخدم صيغة المحاكمة التي تصورها المصري القديم للحساب في العالم الآخر٫ وهي مثول المتوفي أمام عرش أوزير -أول ملك لمصر وفقاً للأسطورة- وتقديمه لعرض كامل لحياته وما أنجزه فيها من حسنات وسيئات على حد سواء ثم يكون قرار المحكمة المكونة من أوزير و إيزيس وابنهما حٌورس إما بارسال المتوفى إلى قاعة الخالدين أو إلى الجحيم.
ولن يلبث القارئ لهذا العمل الأدبي أن يدرك مدى تعمق محفوظ في تاريخ مصر القديمة وما كان لأديب عارف بتاريخ بلاده مثله ان يتجاهل أول ثورة اجتماعية لا في تاريخ مصر فحسب بل في تاريخ العالم أجمع.
ثورة البسطاء
يرصد محفوظ تفاصيل هذه الثورة في مشهد شديد الدلالة حين يدخل البسطاء الذين كانوا وقود هذه الثورة الى قاعة المحاكمة ويختارون رجلاً منهم يدعى أبنوم لكي يتحدث باسمهم.
وبعيداً عن كون ابنوم شخصية حقيقية أو متخيلة٫ فإنه حقاً يمثل هؤلاء البسطاء٫ فهو يدرك تماماً بفطرته النقية ان التاريخ يتجاهل من هم مثله ويتجاهل ثورتهم لأن “التاريخ يدونه الخاصة” اما هم فمن “عامة الفلاحين والصناع والصيادين”.
ثم يسرد ابنوم مقدمات الثورة حيث أدى ضعف الملك بيبى الثانى إلى استقلال حكام الأقاليم واستبدادهم بالاهالي ف “فرضوا المكوس الجائرة٫ ونهبوا الأقوات” وانضم الكهنة او رجال الدين إلى هؤلاء الحكام الجائرين حفاظاً على مكانتهم و مكتسباتهم الاجتماعية وأصبحت النتيجة الطبيعية أن “لا حاكم يعدل ولا قانون يسود ولا رحمه تهبط”.
وبالتالي سرت دعوة العصيان التي أطلقها ابنوم بين العامة سريان النار في الهشيم واستجاب المظلومون لهذه الدعوة “فحطموا حاجز الخوف والتقاليد البالية٫ ووجهوا ضرباتهم القاتلة إلى الطغاة”.
ويرفض ابنوم تماماً اعتبار ما فعله ورفاقه خطيئة أو ذنباً مؤكداً أن “الإله يتجسد فيمن يرفع راية العدل والرحمة أياً من يكون” في اشارة الى الحكومة المؤقتة التي أقامها البسطاء بعد سقوط الأسرة السادسة نتيجة لهذه الثورة.
حكومة الفلاحين
ووفقاً لأبنوم فقد “أقام الفلاحون حكومة من أبنائهم٫ حكمت البلاد فاستتب الأمن وانتشر العدل وامتد ظل الرحمة” ولأن المال لم يُبدد في تلك الفترة في تشييد مبان ضخمة للحكام فقد “شبع الفقراء وتلقوا العلم والمعرفة وتولوا اكبر المناصب” حيث ساد شعار إن “تربية فلاح خير من بناء معبد”.
ولا ينكر ابنوم ارتكاب البعض لجرائم خلال فترة الثورة ولكنه يؤكد للمحكمة أنه “لم يأمر بها ولم يَبْلغه خبر عنها”.
وبعد الاستماع المطول إلى ابنوم٫ يصدر حكم المحكمة على لسان إيزيس التي تعتبر أن ابنوم ابن بار ونبيل من أبناء مصر وتغفر المحكمة له ما حدث من جرائم لان الجماهير الثائرة “لا تخلو من مجرمين يندسون في جموعها إشباعاً لنزواتهم”.
ويكون قرار المحكمة أن يتخذ ابنوم ورفاقه من الثائرين مجلسهم بين الخالدين.
ومن الواضح أن نجيب محفوظ لم يعتمد في سرده لأحداث هذه الثورة الاجتماعية على ما جاء ذكره في بردية الحكيم المصري “ايبور” والتي بدت في أغلبها مرثية لما كانت عليه الأحوال قبل الثورة وتحول الأوضاع بعدها٫ حيث أدرك محفوظ تماماً أن ايبور ينتمي الى طبقة الحكام وأنه في برديته الشهيرة إنما يذرف الدمع على طبقته التي عصفت بها ثورة البسطاء.
لذلك ابى محفوظ بحسه المرهف ككاتب مبدع إلا أن يمنح الشعب صوتاً متمثلاً في ابنوم ليروي الأحداث من وجهة نظره وينصف بدوره من قاموا بأول الثورات.