مع قدوم شهر رمضان الكريم، في كل عام، تتدفق سيول من الأسئلة الدينية الموجهة إلى العلماء والمشايخ والدعاة، في الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون والفضائيات والمواقع الإلكترونية، والراصد لمثل ذلك يجد، أول ما يجد، أن الأسئلة المطروحة في 2018 هي نفسها التي كانت متداولة بذات الشأن في الخمسينيات من القرن الفائت، بل أغلبها أبعد زمنيا بكثير، وبنفس الأساليب والصيغ، والأدهى أنه يبدأ طرحها في تاريخ واحد يقارب حلول الشهر الكريم، وتضمحل تدريجيا، بوتيرة واحدة، مع تقدم الشهر ودنوِّ نهايته، لتبدأ أسئلة أخرى (مماثلة) تتعلق بالعيد وصيام “الستة البيض” وهكذا.
يتوقف العقل المفكِّر ذاهلا حزينا في الحقيقة أمام هذا التكرار العجيب؛ فدلالاته ليست طيبة، ولا يعيب المستفسرين فحسب، لكنه يعيب الذين يتقدمون بالإجابات (المكررة هي الأخرى) متلذذين بها كونهم بموضع الرد الواثق، من دون أن ينبهوا السائلين للحقيقة القاسية: سبق أن تقدمت الإجابات على هذه الأسئلة لسنوات طوال، وهي موجودة بالكتب وسواها من الأوعية القيمة المتوفرة، ولا نظن أحدا بحاجة إلى تكرارها إلا أن يكون غائبا عن الوعي أو عدوا للاطلاع أو مسليا صيامه بمثلها، ولا يبالي.
الشيخ خالد الجندي– من أبرز مقدمي الفتاوي
الأمر لا يقتصر على الشهر الكريم وحده، لو شئنا الأمانة والدقة، فالأسئلة الدينية في عمومها بعصرنا الحالي لا تختلف عما كانت عليه في العصور السابقة (إلا ندرة)؛ كأنها مقطوعة الصلة بحالة حاضرها وحداثة وقتها واختلاف الظروف والمعطيات جميعا..هي هي، وإنما رمضان لطاقته الدينية الأكبر قوة، يصلح أن يكون نموذجا على هذه النمطية المؤسفة.
تقرأ الآن في صحيفة كبرى معتبرة، وتسمع من الراديو، وتشاهد على الشاشات، أسئلة من نوع: ما حدود العلاقة الزوجية في نهار رمضان؟ هل معجون الأسنان وابتلاع الريق وأخذ الحقنة الشرجية وقطرة العين والأذن من المفطرات؟ كيف أقضي الأيام التي أفطر فيها، مضطرة، لحصول الدورة الشهرية؟ متى أتوقف عن شرب الماء في محيط الفجر؟ ما الطريقة المثلى للانتفاع بقراءة القرآن الكريم أثناء الصيام؟ أصلاة التراويح في بيتي، بأهلي، أفضل أم صلاتي في المسجد؟.
إلى ما لا نهاية من الأسئلة الشبيهة التي تم طرحها فعليا وطرح الإجابات الكافيات الوافيات عليها بمدى تاريخ الإسلام الذي بغى أهله عليه وحاربوا تقدمه حربا ضروسا من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون.. أسئلة تقليدية ميتة؛ فلا يوجد بينها سؤال ألمعي يفاجئ أستاذا في الفقه أو العقيدة ولا مذيعا بقناة من القنوات ولا مسؤولا عن صفحة دينية بأية صحيفة، لا يظهر فيها أثر لعلم ولا فلسفة، لكنها أسئلة بقايا الطبقة المتوسطة التي تعبر عن أقوام منعزلين، استهلكتهم الدوائر المفرغة.. هنا أؤكد أنهم لا يجب أن يعابوا وحدهم لكن يعاب بالمثل من يسيرون خلف خطاهم ويطاوعون غفلتهم ولا يلقون حجرا ببحيراتهم الراكدات.
الشيخ عبدالله المطلق – أبرز مقدمي الفتوى العرب
الناس، بالمناسبة، ليسوا في حاجة إلى إزعاج أهل الذكر بأكثر ما يسألون؛ فأسئلتهم بسيطة وواضحة، وإجاباتها كامنة فيها بشيء من الجهد العقلي الخفيف أو العودة إلى الأدبيات المتخصصة، لكنهم يحبِّذون أن يلقوا بأحمالهم على كواهل من يثقون فيهم، وربما استولى عليهم رياءٌ ما؛ فأحبوا أن يقرؤوا أسماءهم في جريدة أويسمعوها بألسنة المذيعين، أما أهل الذكر فهذا عملهم الذي يتقاضون عليه الأجر ويحصدون منه الشهرة؛ فلا يشوِّشون أجرهم وشهرتهم بالحقِّ الذي يجب أن يقال، لكن للأسف يجارون الواقع العقيم المتواكل.
ليت المسألة تقتصر على سؤال المعتدلين المعتمدين، بل كثير ما يأخذ الناس الدين من المتشددين الذين يملؤون الزوايا الصغيرة والمساجد التي لا تتبع الأوقاف ولا تعترف بأهلية المؤسسة الدينية الرسمية ولا تخضع لرقابة تقيِّد جموحها.. الموضوع واسع وكبير وله جوانبه المتعددة، لكن أخطر ما يمكن الحديث عنه فيه حالة التراخي التي أصابت عموم المسلمين؛ فلم يعودوا ذوي فاعلية ولا تأثير.
سألني سائل عن رأيي في الفيديوهات المصنوعة خصيصا للتهنئة بالمناسبات الدينية ومنها الشهر الكريم، وعن رسائل الأدعية التي يطلب من يرسلها أن تعود إليه مرة أخرى بعد أن تدور على عدد هائل من الناس لينال المحظوظ الذي اختارت صندوق بريده الإلكتروني بركتها، وكذلك عن الصلوات على النبي المسماة بالمليونية والمليارية التي قد تصيب الشخص اللعنة إن لم يشارك فيها بالطريقة المطلوبة منه.
قلت له: لا تدل هذه التصرفات على رسوخ الإيمان لدى ممارسيها، أرى طبول هؤلاء جُوفا، وأفاعيلهم ليست من الدين في شيء مهما حاولوا إثبات العكس، ولعمري إنهم يراهنون على السُّذَّج السطحيين ويبدون مرتابين لا أهل يقين، بل يستخدمون التكنولوجيا لأغراض شديدة الرجعية.
ما يجري من تسطيح شديد للدين بمثل هذه الأساليب الركيكة؛ هو ما أفضى بالكثيرين إلى الانتصار للشكل على حساب المضمون، وجعل الجلباب القصير، ومن تحته البنطلون، هو زِيُّ الرجال الذين يدَّعون “الالتزام الديني”، ونقاب المرأة هو العِفَّة لا أخلاقها، واللحية والسواك وإبراز المصحف وترديد الأحاديث النبوية كالببغاء؛ أدلة قطعية على حسن إسلام المرء وصدق اتباعه للقرآن والسنة.
الشيخ محمد حسنين يعقوب
أخيرا لا أحب الاعتقاد بأنني أهتم بما لا يستحق الاهتمام؛ فللناس،عند بعض المتساهلين، حق الحصول على “المعرفة الدينية” بالطرق التي يحبِّذونها ويستريحون إليها، لكن مثل هذه الكلمات الطيبة، مع كامل الاحترام طبعا، لا وزن لها بميزان النور الذي أخرجنا الله تعالى إليه من الظلمات؛ فحاشا أن يكون ذلك النور الإلهي معناها لتكريس للرتابة بالتكرار بعد التكرار كأن المسلمين بشر بائسون يائسون تجمَّدوا عند نقطة واحدة بنصٍّ تاريخيٍّ حافل ممتد، لكن أظن ذلك النور تجديدا وتجددا، وفتحا للآفاق الأرحب الأبعد، ودعوةَ إخلاصٍ للشُّموس القادمات ومحوا أكيدا للَّيل المُدْلَهِمِّ الذيفات.