لم يكتب هيجل الشعر في جلال الدين الرومي، لكن إعجابه وإجلاله كان حاضرا في تناوله لكتاباته، فـ”إذا أردت الوعي بالواحد المطلق بعد أن أضعت نفسك في التقاليد الهندية، وأردت رؤية أجمل الطهارة والسمو فعليك الانتقال إلى شعراء الإسلام، حينما يضع جلال الدين الرومي الرائع تركيزا خاصا على وحدة النفوس مع الواحد في المحبة، وهذه الوحدانية الروحية تسمو فوق المحدود والشائع”.
درس الفيلسوف الألماني التصوف الهندي، لكنه ميز نظيره الإسلامي كما عبر عنه شعراء التصوف الإسلامي عامة، وابن الرومي خاصة، فبلغ الذروة في “الفن الحلولي”، الذي يرتبط بعمق الروح فلسفيا ودينيا، “ومن ثم فهو لا يقوم إلى مهمته العليا بإطلاق إلا إذا تنزل ضمن الدائرة المشتركة مع الدين والفلسفة فلا يكون إلا كيفية وضربا للتعبير والوعي بالإلهي وبالمشاغل الأعمق للإنسان وبالحقائق الشاملة للروح”.
يقرأ هيجل:
لقد قلت: يا أيها الطير لا تطر لشباك الصياد
وتعال نحوي لأنني القوة التي تحرك جناحيك
وترفعك في أعالي السماء
لقد قلت: سيأسروك ويضعوك في الثلج
وأنا النار والدفء لحنينك الحقيقي
لقد قلت: سيغطوك بالماء والطين
وسوف تنسى أنني بدايتك النقية
لقد قلت: لا أحد يمكنه ان يخبرك كم أن عملي ظاهر
لأنني خلقت العالم من كل الجهات
ضع ضياء قلبك دليلا لبيتي
ودع ضياء قلبك يريك بأننا واحد
هذا المعنى المبثوث في شعر الرومي استوقف هيجل، ليسجل في كتابه الثالث من موسوعته الفلسفية، كيف يمكن أن يستغرق الحب الإلهي الإنسان بكليته، ويكتب أسيرا لتلك الحالة التي بعثها ابن الرومي في نفسه:
“من ذا الذي يرى في هذا الشعر المتعالي عن كل ما هو خارجي وحسي، التصور السطحي عما يسمونه بالحلولية!، ومن ذا الذي بالأحرى، يقصر الإلهي على ما هو خارجي وحسي!”.
والحلولية التي رصدها وميزها هيجل عن الموجودة في التصوف الهندي تمثلت “في أن الإلهي، كوحدة وككل، لا يدركه الوعي إلا بعد اختفاء جميع الأشياء الجزئية التي يتجلى فيها حضوره”.
فالشاعر المسلم الصوفي كالرومي، فيما رأى الفيلسوف الألماني، يلتمس الله في جميع مخلوقاته، وحين يدركه فيها، يتخلى عن ذاته كي لا تعوقه عن تمثل الله، فيراه في نفسه، وتبلغ به هذه الدرجة من الانتشاء والسعادة والحرية، وتجعله يرى كل ما حوله مغمورا في الحب، وهو الشعور الذي صوره ابن الرومي بأنه يأتي كنعمة، لا سبيل إليه بالتعليم أو الدراسة، وعندما ينعم به صاحب النعم يتحول “المر حلوا، والتراب تبرا، والكدر صفاء، واﻷلم شفاء، والسجن روضة.. ويبعث الميت وينفخ فيه الحياة”، وعندها يمتد جسرا بين المحب وكل شيء حوله.
ويخرج هيجل من قراءته لابن الرومي بنتيجة يُجري عبرها مقارنة سريعة بين الشعر في الغرب وعند العرب، فيرى أن باطنية المشاعر الرومانتيكية عند الغرب متقوقعة على نفسها، ما يجعلها ضعيفة وهشة، وإن تضمنت مطابقة مع “الحياة الخارجية” لكنها حزينة وكئيبة تنقصها الحرية، أما عند الشرقيين، وخاصة الفرس المسلمين فالباطنية فيها سعيدة وحرة، وهو ما يجعل طاقة الحب التي تشكل المركز لا تكف عن أن تتسع وتشع في كل الاتجاهات، بعد أن استغرق المحب بكليته في الحب الإلهي، بحيث “لا يرى في أي جهة من الجهات إلا الواحد الذي يرد إليه كل ما يقع تحت الحواس”.