فن

النيل في السينما.. حضور بارز

لم يحتل نهر فى العالم تلك المكانة الاستثنائية التي يحتلها نهر النيل فى وجدان المصريين ليس فقط لأنه واهب الحياة وسر الوجود فى الوادي لكنه أحد أهم عوامل قيام أعظم الحضارات البشرية القديمة التي ما تزال تكشف عن اسرارها المدهشة

يحمل نهر النيل لدى المصري القديم تقديرا وتقديسا خاصا ، وهذا ما يؤكده هذا المصري القديم  فى ترنيمة دوّنها في نصوصه الأدبية التي يقول في إحداها: “فليحيا الإله الكامل، الذي في المياه ، إنه غذاء مصر وطعامها ومؤونتها، إنه يسمح لكل امرئ أن يحيا، الوفرة على طريقه، والغذاء على أصابعه، وعندما يعود يفرح البشر، كل البشر”

هو مصدر البهجة وواهب الحياة لكل المخلوقات ورغم أن نهر النيل يمر من المنبع حتى المصب بإحدى عشرة دولة إلا ان الحالة المصرية مختلفة ومميزة بقدر يجعل النهر هو المعادل للحياة ومياه النيل هي صانعة الحضارة

لذلك فقد كان للنيل مكانته الخاصة لدى صناع السينما بنفس الدرجة التى كانت له لدى المبدعين فى كل أشكال الفنون والآداب.

وخلال مسيرة السينما المصرية الممتدة لأكثر من قرن كان النيل حاضرا فى غالبية الأعمال لكنه كان بطلا لعدد كبير من الأفلام التي تناولت علاقة  النهر بالناس وعلاقة الناس بهذا النهر الخالد الذي يسرى فى عروق المصريين وهذا التعبير يخلو من أى مبالغة أو تزيد لكنها حقيقة عرفها الفلاح المصري خلال تاريخه الطويل .. ذلك الفلاح البسيط الذى يدرك أهمية النهر بفطرته ويعرف جيدا قيمة مياه النيل وضرورتها.

https://www.youtube.com/watch?v=P3C2-f5Mxuw

يوسف شاهين ابن النيل

 رغم أن يوسف شاهين من مواليد الإسكندرية حيث البحر المتوسط هو الملهم الأكبر إلا أنه من أكثر مخرجي السينما اهتماما بنهر النيل وقد  تناوله فى أعماله فى اطار معالجة بها قدر كبير من العمق وإيمان شديد بالعلاقة الوثيقة بين البشر والنهر وبين المياه والحضارة ومدى ارتباطهما

فى عام 1951  قدم الشاب حينذاك يوسف شاهين  عمله الثانى وهو “إبن النيل ” بطولة فاتن حمامة  و شكرى سرحان ولعل الفيلم الذى جاءت قصته فى سياق تقليدى – ولم يكن شاهين قد نضج بما يكفى حيث كان فى الرابعة والعشرين من عمره – إلا أن فيلمه  امتاز بقدر كبير من المشاعر الإنسانية المركبة والمتداخلة وبدا النيل من خلاله وكأنه رمزالخير والحياة وأيقونة للعطاء وأظهر علاقة الفلاح المصرى الوثيقة بين النهر وبين النماء والحق

وفى عام 1954 يظل النيل حاضرا فى كاميرا شاهين من خلال فيلم “صراع فى الوادى ” بطولة فاتن حمامة، وعمر الشريف، وفريد شوقي، سيناريو وحوار علي الزرقاني حيث يقف النيل شاهدا فى مدينة الأقصر على “المهندس الزراعى  أحمد ” والذي يعود إلى قريته في جنوب الوادي، حيث يعمل أبوه ناظر زراعة وينجح في تحسين سلالة القصب ويحب ابنة الباشا منذ أن كانا صغيرين ، وكأن النيل هو الحاضن لهذا الحب والحارس له

صراع في الوادي
مشهد من فيلم صراع في الوادي

وفى عام 1972 يقدم شاهين فيلم “الناس والنيل ” وهو وثيقة مهمة تؤكد تلك العلاقة الوثيقة بين المصري وبين النهر .. فيلم آخر للمبدع  يوسف شاهين حيث يتناول مرحلة بناء السد العالي، وكان شاهدا على بداية مرحلة جديدة لمجرى النيل، الفيلم بطولة سعاد حسني وصلاح ذو الفقار وعزت العلايلي ومحمود المليجي، ويرصد  حالة فرح المصريين  عندما تم تحويل مجرى نهر النيل، عام 1964، حيث تبدو الفرحة على وجوه المصريين.

ولعل العمل الأهم فى مسيرة “شاهين ” بل وأحد أهم الأعمال فى تاريخ السينما المصرية التى ترصد هذا الوجد والتوحد بين الفلاح المصري وبين مياه النيل وكيف أن المياه هى المعادل الطبيعي للحياة ذاتها فلا حياة بدون مياه النيل  كان هو  فيلم ” الأرض ” عن قصة عبد الرحمن الشرقاوي الذي قدم ملحمة فنية شديدة الصدق والتفرد لحياة الفلاح المصري وارتباطه بنهر النيل

كما كان النيل حاضرا فى معظم أعمال شاهين وظل النهر قادرا على خطف كاميرا المخرج الكبير لكن النهر المقدس كما جاء فى فيلم “المهاجر ” تحول به الأمر وتم تشويهه بفعل العشوائيات ويتحول إلى ملاذ للأعمال الوحشية والسلوك غير الأخلاقى كما جاء فى آخر أعماله “هى فوضى ” عام 2007

النيل… حياة

لم يكن شاهين وحده الذي حضر النيل فى أعماله وكان محورا لها فقد قدم المخرج عاطف سالم فيلم “صراع فى النيل ” عام  1959  عن قصة على الزرقانى وقد تم تصوير غالبية مشاهد الفيلم على سطح مركب داخل النيل  فى رحلة من الجنوب إلى القاهرة لتعطى صورة شديدة العمق لنهر النيل ويبدو كأنه محور حياة المصريين خاصة سكان الجنوب .

وفى عام 1969 يقدم المخرج حسين كمال إحدى روائعه وإحدى كلاسيكيات السينما المصرية وهو فيلم “شئ من الخوف ” عن قصة ثروت أباظة ويشتبك العمل بشكل مباشر مع الطاغية الذى يتحكم فى مياه الري وبالتالي فإنه يتحكم فى حياة البشر وكأن المياه تساوى لدى المصريين الحياة ذاتها.

أبدع حسين كمال فى تصوير مشاهد الأرض الزراعية وهى تعانى العطش ويبدو الفلاح المطحون كأنه يوشك على الموت ويعانى الظمأ بنفس الدرجة

كما قدم “حسين كمال ” فيلم «ثرثرة فوق النيل» المأخوذ عن قصة نجيب محفوظ والذى استخدم خلاله النيل كخلفية لكل ما يريد المخرج قوله عن مرحلة سعى لتقييمها من وجهة نظره فكان النيل وكأنه شاهد على كل الأحداث .

كما استخدم المخرج خيرى بشارة النيل كخلفية للأحداث فى فيلمه الهام “العوامة 70 “ .

وفى اطار كوميدي قدم المخرج فطين عبد الوهاب عام 1963 فيلم “عروس النيل ” بطولة لبنى عبد العزيز، رشدي أباظة، شويكار، عبدالمنعم إبراهيم عن قصة سعد الدين وهبة، سيناريو وحوار لبنى عبدالعزيز

كما قدم المخرج “كريم ضياء الدين عام 1995 فيلم ” المراكبي ” بطولة صلاح السعدني ومعالى زايد وتدور معظم الأحداث على مركب صيد فقير فى نهر النيل يمثل مكان السكن والعمل بل العالم كله بالنسبة ل أحمد المراكبي الذي يريد أن يلتحق ابنه بالمدرسة، لكنهم لا يملكون أوراق إثبات شخصية. ولإلحاق ابنه بالمدرسة لابد من وجود شهادة ميلاد له، فيسعى أحمد لاستخراج بطاقة شخصية ليتمكن من استخراج شهادة ميلاد لابنه الطيب. وتتوالى الأحداث .. ويكشف الفيلم عن حياة تلك الفئة من المهمشين الذين لا يدركون فى حياتهم سوى صيد الأسماك والحياة فى نهر النيل فقط .

صلاح السعدني من فيلم المراكبي
صلاح السعدني من فيلم المراكبي

غياب بعد الحضور

فى السنوات الأخيرة لم يعد النيل ملهما لدي صناع السينما بنفس الدرجة التى كان عليها  في الماضي وتحول استخدامه فى معظم الأحوال إلى مجرد خلفية غالبا ما تكون عابرة وذلك باستثناء قليل من الأعمال من بينها فيلم “عصافير النيل ” للمخرج مجدي أحمد على المأخوذ عن قصة ابراهيم أصلان حيث كان النيل هو البطل والرمز الأساسي فى العمل وكشف عن تلك العلاقة الوثيقة والأبدية بين سكان الريف وبين النهر وكأن النيل فى قري مصر غير هذا النهر الذى يسري فى القاهرة بكل ما بها من ضجيج واغتراب وقسوة تتعارض مع طبيعة النهر الخيرة الحنونة

كما اقترب “خالد يوسف ” من النيل في فيلم “إنت عمري ” لكنه ظل خلفية رغم أنها حملت دلالات قوية ومهمة نفس الأمر مع ” يسري نصر الله ” فى “أحكى يا شهرزاد ” وغيرها من الأعمال التي تناولت النيل بوجهه المغاير والبعيد عن طبيعته وجعلت منه رمزية للتردي من خلال البواخر النيلية التى تعج بالسفه والإسراف والمجون أو من خلال كشف تلك الفوارق الطبقية المفزعة التي أصابت المجتمع وبقى النيل شاهدا على كل تطوراتها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock