قبل رحيله عن عالمنا بنحو ست سنوات٫ وتحديداً في عام ٢٠١٢ حين كانت شوارع مصر لا تزال تعج بالمتظاهرين المطالبين بالتغيير بعد نجاحهم في إنهاء حكم حسني مبارك الذي دام نحو ثلاثين عاماً٫ كتب الإقتصادي المصري الراحل الدكتور جلال أمين مقالاً بعنوان “القضية المسكوت عنها”.
بدا الدكتور أمين في هذا المقال وكأنه ينبه الى قضية غابت عن ذهن معظم الأطراف ان لم يكن كلها وغابت ايضاً عن خطابهم الجماهيري وهي ببساطة قضية الاستقلال الوطني.
يطرح أمين في مقاله سؤالاً حائراً : “لماذا يبدو وكأننا فى غمار حماسنا للديمقراطية السياسية، منذ قيام ثورة 25 يناير 2011، قد نسينا موضوع الاستقلال؟”.
ويضيف أن الخطاب المسيطر على الساحة منذ سقوط مبارك تمحور حول شؤون داخلية بحتة مثل ” الانتخابات والاستفتاءات، وطريقة تجنب التزوير فيها والتلاعب بنتائجها، وما إذا كان وضع الدستور يأتي قبل أو بعد الانتخابات” كما تم شغل الرأي العام بجدل من نوعية ” ما إذا كانت الدولة المدنية أفضل أم الدينية… إلخ”.
لكن الغائب في كافة هذه الحوارات هو الاستقلال٫ هو الحديث عن استرداد مصر قرارها السيادي بعد سنوات طوال من التبعية للهيمنة الأجنبية.
“هوجة” الترحم على الملكية !
أتذكر مقال الدكتور أمين وتحليله الصائب إلى حد كبير كلما طالعني على مواقع التواصل الاجتماعي منشور من نوعية باتت معتادة للعبد لله في السنوات الأخيرة: منشور يترحم على أيام الملكية في مصر (١٩٢٣- ١٩٥٣) ويتمنى عوده ذلك العصر الذي يراه عصراً “ذهبياً”.
في أغلب الأحيان تتخذ هذه المنشورات شكلاً واحداً نمطياً ومكرراً وكأنه “سيناريو” تم توزيعه على مجموعة من الممثلين وطُلب منهم حفظه دون أي تعديل أو محاولة للارتجال او الاضافة.
يتضمن المنشور صورة ما لشارع شديد الجمال والبهاء -غالباً من منطقة وسط القاهرة- او احد المحلات الأجنبية في تلك المرحلة أو احد القصور المنيفة التي كان يقطنها أحد أفراد أسرة محمد علي باشا ويكون التعليق المصاحب للصورة هو ذاته في كل منشور : انظروا كيف كان الوطن جميلاً ونظيفاً وراقياً في تلك المرحلة أو ذلك الزمن البعيد وكيف صار اليوم بعد نحو سبعين عاماً مما حدث في صيف عام ١٩٥٢.
تركز أغلب المنشورات على فكرة أننا- معشر المصريين- كنا “أثرىَ” او “أغنى” او نعيش في وضع افضل آنذاك من الناحية الاقتصاديه والاجتماعيه مما نعيشه اليوم٫ لكن أياً من هذه المنشورات لا يطرح سؤالاً بسيطاً وجوهرياً في نفس الوقت: هل كنا مستقلين في تلك الفترة؟ هل كنا كمصريين نملك قرارنا؟ هل كنا نتحكم في خيرات وثروات بلادنا أم كانت منهوبة من قبل طرف خارجي؟
ان اغفال هذا السؤال البسيط من قبل المترحمين على الملكية يعكس منطقهم الذي يرى – تماماً كما يرى من استعمروا بلادنا- أن المهم هو العيش في حد ذاته٫ فان كان الفرد في بحبوحة منه وفي رغد فلا يهم إن كان يحيا في وطن ذليل مهان تدنسه أقدام الغزاة والمحتلين.
ليست صدفة .. وليست بريئة
إن الحياة الكريمة التي تقوم على الكرامة والعزة ليست ما ينشد هؤلاء بل الحياة في حد ذاتها أياً كان نوعها وإن كانت في خدمة مستعمر.
والحقيقة أن هذا تحديداً كان جوهر الفترة الملكية التي لم يكن فيها من الملكية سوى اللقب والاسم٫ جاء الملك الأول فؤاد نتيجة اختيار قام به المحتل بعد أن عزل خديوي مصر عباس حلمي ثم وضع مكانه عمه حسين كامل ولأن المستعمر هو الذي يحدد الألقاب كما يحدد شخص حاملها٫ فقد أسبغ على حسين كامل لقب “سلطان” في سياق عزل مصر عن سلطان الدولة العثمانية٫ وإن كان سلطاناً بلا سلطة.
وحين رحل حسين كامل وأبى ولده الأمير كمال أن يحكم في ظل الاحتلال٫ لم يجد المستعمرون صعوبة في العثور على أمير من الاسرة العلوية يقبل أن يحكم تحت ظل حرابهم٫ فوقع الاختيار على فؤاد بن الخديوي اسماعيل وجيء به من اسطنبول ليُوضع على عرش مصر٫ ولأن المستعمر كان يعلم مدى ولاء هذا المقامر السابق له٫ أنعم عليه ثانية حين أنجب ولده فاروق فجعل وراثة العرش في أولاده من بعده.
وُضع فاروق على العرش وهو صبي مراهق لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره ولعل هذا ما يفسر لم كان السفير البريطاني- الحاكم الفعلي آنذاك- يشير إليه في مذكراته في استهزاء واحتقار واضح باسم “الولد”.
وكما كان الحال مع فؤاد٫ لم يحكم فاروق أبعد من حدود قصره وحتى هذه لم يستطع ان يحميها او يذود عنها حين حاصرها المحتل في الرابع من فبراير عام ١٩٤٢ وفرض عليه وزارة بعينها فأجاب المحتل مرغماً الى طلبه.
إن هذه الكرامة المهانة والسيادة المهدرة هي تحديداً ما حفز ضباط الجيش الشبان لتغيير هذا النظام الذي لم يحقق للوطن على مدار ثلاثين عاماً كاملة الاستقلال الذي كان يصبو إليه الشعب المصري.
وفي سبيل هذا الاستقلال كان على حكام مصر الجدد وشعبهم من خلفهم أن يخوضوا معركة دامية في عام ١٩٥٦ لانتزاع الحرية انتزاعاً من المستعمر السابق ومعها أحد أهم موارد البلاد الاقتصادية : قناة السويس.
https://www.youtube.com/watch?v=Rk7stkhJFIs
أن الموجة الرائجة عبر العالم الافتراضي منذ العام ٢٠٠٣ – وهو العام ذاته الذي غزت فيه الجحافل الامريكية ارض العراق- من ترحم على أنظمة ما قبل الاستقلال الملكية التي حكمت في ظل الاستعمار ووفق شروطه ليست بريئة ولا بالصدفة بل هي – في رأيي – موجة منظمة تهدف إلى خلق نوع من استحسان الاحتلال الأجنبي لدى الأجيال الشابة والرضا به.
أن منطقها هو أنه لا بأس أن ترضى أيها الشاب ب”بيادة” أجنبية غليظة تدوس أرض بلادك طالما أنك تأكل وتشرب وتنعم بما لذ وطاب من مٌتع الحياة٫ وهذا لعمري أكثر مما يحلم به ويتمناه أي غاز ومحتل.