«عندما كان ذلك الجزء من العالم يعاني من الجوع، ذهب يعقوب مع أولاده إلى مصر وكذلك السيد المسيح عندما اضهد في طفولته ذهب إلى هناك … الحديث لكم عن رحلتي الأخيرة، يندرج ضمن الحديث عن الرجاء، فمصر بالنسبة لنا علامة أمل في التاريخ وفي الحاضر» … هكذا تحدث البابا فرنسيس بابا الفاتيكان عن مصر بذلك اللقاء المفتوح الذي أجراه مع محبيه بساحة القديس بطرس بالفاتيكان نهار الأربعاء الثالث من مايو عام 2017 بعد بضعة أيام من زيارته لمصر.
يواصل الكاتب «إميل أمين» الباحث المتخصص في الشئون الدولية في كتابه «فرنسيس .. فقير وراء جدران الفاتيكان» الصادر عن المركز الثقافي الفرنسيسكاني (CCF)بمصر إبحاره داخل عالم البابا فرنسيس وعلاقته بمصر وموقفه الواضح والداعم للقضية الفلسطينية ورؤيته لطبيعة العلاقة التي تربط ما بين العالم الإسلامي والفاتيكان.
الجزء الأول: فقير وراء جدران الفاتيكان ( 1 – 2)
مصر والفاتيكان
استهل الكاتب إميل أمين حديثه عن علاقة البابا فرنسيس بمصر بتقديم لمحة تاريخية عن طبيعة العلاقة التي طالما ربطت مصر بالفاتيكان والتي جاء مولدها مع نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي مع تصاعد الصراع العربي الصهيوني ونشاة جامعة الدول العربية حين أعد «عبد الرحمن عزام باشا» وهو أول أمين عام لجامعة الدول العربية مذكرة تتناول أهمية إقامة علاقات دبلوماسية مع الفاتيكان قدمها للملك فاروق الذي رأى ضرورة إتخاذ الإجراءات اللازمة للتواصل مع الفاتيكان.
بذات السياق أصدرت الحكومة المصرية قرارا بتعيين «طاهر العمري» كأول سفير لمصر لدى الفاتيكان وذلك عام 1949، وقد رحبت الصحف المصرية على إختلاف توجهاتها بذلك القرار وكان عام 1951 بداية الزيارات الرسمية من قبل الفاتيكان لمصر حين حضر الكاردينال ذائع الصيت «أوجين تيسيران» – من أشهر المستشرقين في الغرب والمسئول عن الكنائس الشرقية – لزيارة مصر بمناسبة يوبيل جامعة الأزهر وتوالت الزيارات ولم ينقطع التواصل بين مصر والفاتيكان حتى يومنا هذا.
قبيل زيارة البابا فرنسيس إلى مصر بشهر إبريل من عام 2017 وجه فرنسيس كلمة إلى شعب مصر جاء فيها: «يا شعب مصر الحبيب .. السلام عليكم، بقلب فرح وشاكر، سأزور بعد أيام قلائل وطنكم العزيز، مهد الحضارة، وهبة النيل وأرض الشمس والضيافة .. إني لسعيد حقا أن آتي صديقا ومرسل سلام، وحاجا إلى الأرض التي قدمت منذ أكثر من ألفي عام ملجأ وضيافة للعائلة المقدسة».
وقف البابا فرنسيس في الثامن والعشرين من إبريل عام 2017 بقاعة المؤتمرات بجامعة الأزهر ليؤكد على ضرورة الحوار بين الأديان والثقافات .. «ليبزغ من هذه الأرض التي تعانقها الشمس، فجر ثقافة السلام واللقاء بتضرعات القديس فرنسيس الأسيزي الذي أتي إلى مصر وقابل السلطان الملك الكامل» .. في إشارة منه لذلك القديس الإيطالي الذي عاش خلال فترات «الحملات الصليبية» والذي طالما نادى بالسلام وبضرورة التسامح بين الأديان.
تناول البابا فرنسيس خلال حديثه إلى جانب طرح قضية الحوار بين الأديان والثقافات ضرورة العمل على القضاء على الفقر والإستغلال ودعم مطالب الشعب المصري المتمثلة في: «الخبز والحرية والعدالة الإجتماعية» والإحترام غير المشروط لحقوق الإنسان كالحق في المساواة بين المواطنين كافة وحق حرية الدين والتعبير دون أي تمييز ومراعاة دور المرأة والشباب والأكثر فقرا والمرضى.
فرنسيس والقضية الفلسطينية
لا يمكن تناول سيرة فرنسيس بابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية دون التوقف عند رؤيته وموقفه من القضية الفلسطينية والتي تعد امتدادا للموقف الواضح والصريح والمعلن من قبل الفاتيكان منذ اللحظات الأولى لإعلان وعد بلفور الصادر عام 1917 -الخاص بشأن تأسيس دولة يهودية على أرض فلسطين- حيث رفض الفاتيكان وعد بلفور جملة وتفصيلا وانطلق هذا الرفض من أمرين أولهما ديني يتعلق بعدم إعتراف اليهود بالسيد المسيح عليه السلام والثاني لما كان متوقع من إلحاق الدمار بالشعب الفسطيني.
رفض الفاتيكان عام 1947 قرار تقسيم فلسطين وفي عام 1948 دعا البابا «بيوس الثاني عشر» إلى ضرورة تقديم ضمانات دولية تتعلق بحرية الوصول إلى الأماكن المقدسة المنتشرة بأرجاء فلسطين وليس القدس فقط ودعا إلى حرية العبادة وإحترام التقاليد والعادات الدينية وجدد البابا دعمه لعرب فلسطين مسيحيين ومسلمين، ومن ثم أسس الفتايكان عام 1949 البعثة البابوية لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين، مستبقا بذلك خطة الأمم المتحدة الخاصة بشأن اللاجئين وعلى الجانب الآخر استمر الفاتيكان في رفضه لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل على إمتداد خمسة وأربعين عاما حتى عقدت منظمة التحرير الفسطينية اتفاق أوسلو مع الجانب الإسرائيلي لتبدأ تلك العلاقة الدبلوماسية ما بين الفاتيكان وإسرائيل مع نهاية عام 1993.
تجلى موقف البابا فرنسيس من القضية الفلسطينية حين وقع الفاتيكان مع فلسطين منتصف مايو 2015 اتفاقا ثنائيا تضمن إعترافا صريحا «بدولة فلسطين» وفيها: «أن الإتفاقية تهدف إلى تعزيز الحياة والأنشطة الكنسية الكاثوليكية والإعتراف بها على المستوى القانوني لخدمة المجتمع بفاعلية أكثر» .. بالطبع لم تكن لتلك الإتفاقية أن تلقى هوى لدى الجانب الإسرائيلي حتى أن أحد مسئولي الخارجية الإسرئيلية بادر بوصف تلك الخطوة من قبل الفاتيكان بكونها «خيبة أمل» وأضاف: «لا يعزز هذا عملية السلام وعودة الفلسطينيين إلى المفاوضات .. ستدرس إسرائيل المعاهدة وتبحث خطواتها المقبلة وفقا لذلك».
على الجانب الآخر رحبت جامعة الدول العربية بتلك الإتفاقية وأعرب الدكتور «نبيل العربي» أمين عام الجامعة في حينها عن تقديره لهذه الخطوة التي من شانها أن تدعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والإقرار بحقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
تجلى الموقف الداعم للبابا فرنسيس للقضية الفسطينية مرة أخرى حين عارض إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الخاص بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس وتضمنت كلمته بهذا الشأن دعوة صريحة بضرورة إحترام خصوصية مدينة القدس وتطبيق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة .. «القدس مدينة فريدة، مقدسة لليهود والمسيحيين والمسلمين الذين يصلون فيها، كل في المواقع المقدسة لديانته، ولها رسالة خاصة من أجل السلام .. أرجو من الله أن يحافظ على هذه الهوية، وترسخ بما هو لصالح الأرض المقدسة والشرق الأوسط والعالم أجمع، وأن تُغلب الحكمة والحذر لتفادي إضافة عوامل توتر جديدة إلى مشهد عالمي تسوده بالأساس الإضطرابات ويهزه العديد من النزعات الضارية».
الأزهر والفاتيكان
حاول العديد من الإعلاميين الغربيين معادلة الإرهاب بالإسلام -فلديهم كل من هو إرهابي هو بالضرورة مسلم- غير أن رؤية البابا فرنسيس للإرهاب تختلف إختلافا جذريا عما هو شائع لدى الإعلام الغربي فلطالما أكد عبر أحاديثه المتعددة على أن القول بأن الإسلام هو المعادل أو المكافىء الموضوعي للإرهاب لهو أمر يمثل «كذبة تتسم بحماقة» مشيرا إلى أن أهم دور للأديان يتمثل في تعزيز «ثقافة اللقاء» إلى جانب تعليم السلوك الحقيقي المسئول عن العناية بالخليقة.
لم تكن تصريحات البابا فرنسيس لتغيب عن أعين الأزهر وعلمائه لهذا حرص مرصد الأزهر على الإشادة بتصريحات البابا فرنسيس الخاصة بعدم معادلة الإرهاب بالإسلام مؤكدا على أن تصريحات البابا إنما تعكس فهما جيدا لطبيعة الإسلام وتعاليمه السمحه إلى جانب إدراكه لمجريات الأحداث على الساحة الدولية، مع تأكيد مرصد الأزهر على ضرورة تواصل الحوار ما بين المؤسستين الكبيرتين (الأزهر والفاتيكان) من أجل تحقيق الخير للبشر جميعا.
كان لليمين المتطرف بأوروبا رأى آخر حيث كثف الهجوم على موقف البابا المعارض لمعادلة الإرهاب بالإسلام إلى حد تخصيص «هاشتاج» على موقع «تويتر» لإنتقاد تصريحات البابا وبذات السياق شن المفكر الفرنسي «إيفان ريوفول» مؤلف كتاب «الحرب الأهلية القادمة» هجوما حادا على البابا فرنسيس حيث رأى في حديثه حول «وجود أصوليات إسلامية ومسيحية عبر التاريخ .. نوعا من التنصل من مسئوليته التاريخية كما يعد تخفيفا من ذلك الرعب الذي ينشره الإرهاب الإسلامي» على حد زعمه و قوله السخيف.
الهجرة وأزمات اللاجئين
منتقدو البابا فرنسيس لم يقفوا عند حدود موقفه الرافض لمعادلة الإرهاب بالإسلام بل وصل الأمر بهم حد نقده الشديد لدعمه لمطالب المهاجرين في أوروبا وربما كان ذلك لكون غالبية هؤلاء المهاجرين من المسلمين ما دعا البعض لطرح قضية «أسلمة أوروبا» وكيف أن جذور أوروبا المسيحية – من وجهة نظرهم – لا يمكنها أن تتقبل اندماج غير المسيحيين.
من جانبه أكد البابا فرنسيس على عمق إشكالية الهجرة وأزمات اللاجئين ومقدرة المسلمين والمسيحيين في أوروبا على التعايش معا في سلام مع تأكيده على أن أوروبا في حاجة ماسة إلى الدمج والإستيعاب أكثر من ذي قبل وذلك نظرا لما باتت تعاني منه القارة من إنخفاض معدل المواليد الذي نجم عنه زيادة دائرة الفراغ السكاني يوما بعد يوم.
تعدد الهويات الثقافية الذي تتميز به أوروبا لهو الضامن الأكبر لطرح قضية التعايش السلمي ما بين المسيحيين والمسلمين كما أن فصل دور الكنيسة عن سلطة الدولة لهو المفتاح السحري لنجاح هذا التعايش، في هذا السياق يؤكد البابا فرنسيس على أهمية أن تكون الدولة علمانية (مدنية) تقوم على منظومة قوية من القوانين التي تضمن حرية العقيدة ويعطي في هذا مثلا بحرية إرتداء المرأة المسلمة للحجاب مثلما يحق للمرأة الكاثوليكية أن ترتدي الصليب.
سيرة حياة «فرنسيس بابا الفاتيكان» التي قدمها الكاتب إميل أمين تعد بمثابة مخطوط غاية في الثراء يمكن قراءته بأكثر من زاوية فهو من ناحية يؤرخ لطبيعة العلاقة ما بين الفاتيكان والعالم الإسلامي، كما يقدم من ناحية أخرى رؤية الفاتيكان للقضية الفلسطينية إلى جانب قضية الهجرة ومشكلات اللاجئين حول العالم وغيرها العديد من قضايا عالمنا المعاصر.