بقلم: الأديب والقاص والروائي المصري المعروف أحمد الخميسي، نقلًا عن صفحته على الفيسبوك
عاشت ثورة يوليو أعواما قليلة بمقياس الزمن منذ بزوغها إلي نكسة 1967 ، ومع ذلك كانت تلك الأعوام بهجة التاريخ المصري كله ، البهجة التي انقضى على ذكراها 69 عاما . حين قامت الثورة كان عمري أربعة أعوام. كل ما أذكره حينذاك أن أبي كان بعيدا عنا، معتقلا ، وأمي تعمل مضطرة في مدينة نائية ، ونحن في رعاية جدي وجدتي. عام 53 خرج والدي فانتقلنا من شارع السروجي في الجيزة لنسكن في شارع مجاور. وكان عندنا راديو فيلبس في الصالة منه عرفت أن بلدا اسمها الجزائر تقاوم الاحتلال ، وأن ثورة يوليو تقدم الدعم لها . ولم يمض وقت حتى قيل لنا ونحن صغار : لا تأتوا إلي المدرسة ، فقد قامت الحرب . كنا نطوف حول مبنى مدرستنا لنتفرج على العساكر المصريين جالسين في فنائها ينظفون بنادقهم ، ويأكلون . أية حرب ؟ العدوان الثلاثي على مصر . واستهوتني صورة البنادق على الأرض ، فكنت أحمل طعامي وأنقله إلي العساكر في مدرستي لكي يدعوني أتفحص البنادق . وبعد أيام هرولت مع باقي العيال إلي حقل غير بعيد حين سمعت أن الأهالي أمسكوا بجندي إنجليزي كان يهبط بالباراشوت . ومنحتني البنادق وصورة الجندي الأشقر المضطرب بين أيادي الأهالي شعورا عجيبا بقوة بلادي . بدءا من عام 1960 انشق نهر الثورة الواحد ليصب في نهرين : صوت عبد الناصر القوي ونظرة عينيه الصريحة المخلصة وعالم الإنجازات الباهرة ، وعالم آخر من حكايات سرية عن المعتقلات ، والعسكري الأسود ، ودموع عائلات كثيرة . وتضافر الليل والنهار في إحساسي بالثورة . لغز هذا الشعور المركب لم أستطع أن أحله إلي الآن . عام 1966 بدأت ظلال القضبان تمتد إلي أبناء جيل الستينات من شعراء وكتاب ونقاد .
ثم تمزق الجميع بطعنة النكسة . عام 1968 دخلت إلي المعتقل وقضيت نحو عامين ونصف العام . ولم يفقد عبد الناصر أبدا قدرته الهائلة على أن ينقل لمصر كلها شعورا بمسئوليته عنها ، وبأبوته ، ووطنيته . وكان الحزم القاطع الذي يبدو على وجه عبد الناصر والصرامة التي اكتسبتها تقاطيع وجهه تتجلى ترنيمة بأحلام الثورة في صوت عبد الحليم . ملأت الأغنية القوية العذبة الجو كطائر ابيض ضخم بأن مصر ترتقي ، وتعلو ، وتتحدى ، وتهتف بصوت عبد الناصر النحاسي الرنان يتحدى الاستعمار الأمريكي” فليشربوا من البحر”! وشاعت كالنور أمنيات لم تفقد ألقها : أن يكون لكل فلاح قيراط يزرعه ، وأن يغدو لكل عامل نصيب في مصنعه ، وأن يمسي خير بلدنا كلها للشعب .. كله بأجمعه ! وكانت صورة عبد الناصر وراء كل تقدم : الاستقلال والتأميم والسد والتصنيع والتعليم المجاني والتنمية . وأذهلني فيما بعد أن أعلم أن عبد الناصر كان قلقا إلي أقصى درجة إلي حد أن أحد رجال المخابرات السوفيتية كتب بعد لقائه به:” كانت أظافر يدي عبد الناصر مقروضة حتى اللحم” . متى كان يأكله القلق وهو الذي وهب الجميع الشعور بالجسارة ؟ ومتى وكيف كانت تغمره المخاوف ؟ و كنت أظنه كتلة من الصخر .. فإذا به بشر بحاجة إلي سند؟ قدر لي أن أشهد يوم رحيله ، وأن أرى نعشه يشق السماء ، وأن أسمع الأرض ترتج تنقل هتاف الوداع إلي السحاب ، وأن تتساقط على يدي دموع الفلاحات في شوارع ميدان التحرير . يومها أصبح واضحا أن العرس قد انفض ، وأن البهجة تلملم ذيولها ، وأن الموسيقيين يجمعون آلاتهم ليغادروا التاريخ .
يقولون : ما الذي بقى من الثورة ؟ ما ثمارها ؟ وما الذي بقى من كل الثورات في العالم ؟ لا شئ سوى درس واحد : أن الناس في الثورة يختلفون ، ويصبحون أفضل ، وأنبل ، وهذه هي جائزة كل الثورات ، وجائزة كل الأبطال الذين يبذلون أعمارهم من أجل بلادهم . وسيبقى الرجل الذي زين مصر بورد البهجة حيا في ضمائر شعبه. ما الذي منحتنا إياه ثورة يوليو ؟ الأحلام ؟ وما الذي يهبه لنا الأدب والفن والموسيقى والحب ؟ حزمة من الأحلام تشق الظلمة كالشعاع . في الذكرى التاسعة والستين للثورة أنصت من جديد إلي أغنياتها ، وأهازيجها ، وتستولي على قلبي رجفة إعزاز عميق ، وأرى ملء الفراغ ذلك الوجه المشبع بالكبرياء والصرامة وأحلام أمته وأسمع الصوت النحاسي الرنان يغمر قلبي بنور التحدى: ” بــاسـمـكــم جــمـيــعــا”.