فن

أغاني أفلام يوسف شاهين…كيف غنى المايسترو؟

لم يكن ولعه الكبير بالموسيقى والغناء سوى تعبيرا عن وعي بأهمية وقدرة هذا النوع من الفنون على التأثير والنفاذ سريعا إلى وجدان المتلقي .. من هنا  وصف بعض النقاد “يوسف شاهين ” بأنه المايسترو الذي ضل طريقه إلى الإخراج السينمائي”.

في السابع والعشرين من شهر يوليو عام 2008 رحل ” الأستاذ ” كما كان يلقبه زملاؤه في الوسط الفني .. رحل بعد رحلة عطاء فني كشف خلالها عن موهبة استثنائية في الإخراج السينمائي  ، قبيل وفاته أوصى “الأستاذ ” أن يكتب على قبره في مسقط راسه بمدينة  الإسكندرية جزء من أغنية “حدوتة مصرية ” للشاعر “عبد الرحيم منصور ” والتي  تضمنها فيلم لشاهين  حمل نفس العنوان وبالفعل كتب:

 “لا يهمني اسمك …

 لا يهمني لونك ولا ميلادك ..

يهمني الإنسان ولو مالوش عنوان “

 موسيقى يوسف شاهين

  لم يكن ” شاهين ” مجرد مخرج مر على شاشة الفن السابع بل استطاع أن يصنع لنفسه مدرسة فنية مميزة ومثيرة للجدل دائما اختلطت فيها رغبة عارمة في المغامرة والتجريب مع انحياز فكرى واجتماعي أكدته كل الأعمال التي قدمها منذ عام 1950 حيث كان أول أعماله “بابا أمين ” حتى عام 2007 حين قدم آخر أعماله “هي فوضى ” وخلال تلك المسيرة كان شاهين صاحب القدرة دائما على إثارة الدهشة والتحليق  بعيدا عن كل ما هو سائد ومألوف ليغرد بالكاميرا على أوتاره الخاصة التي لا تشبه أحدا.

لم يتعامل “شاهين ” مع الموسيقى والأغنية باعتبارها ورودا يتزين بها العمل الفني فحسب،  بل كانت مكونا أساسيا في أفلامه ، وحرص دائما على أن تكون الأغنية في أعماله أيقونة تضيف إلى العمل رسالة وتختزل أحيانا ما يسعى إليه شاهين وأحيانا أخرى تعبر الأغنية عن فكرة إضافية أرادها الأستاذ وحرص على تأكيدها.

كل ذلك جعل من الأغنيات التي قدمها شاهين في أعماله  نماذج ناجحة  للأغنية الدرامية وحقق بعضها نجاحا كبيرا بعيدا عن الفيلم ذاته.

هذا ما دفع الفنانة والباحثة الدكتورة “رانيا يحيى ” إلى القول في كتابها ” موسيقى أفلام يوسف شاهين “الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة: ” الأغنية عند شاهين تمارس أدوارا عديدة وهامة تكاد تكون الأغنية هي البناء الوجداني والفكري والفلسفي والشحنات العاطفية التي يمكن أن يستخلصها المشاهد من الفيلم “

وتناولت “يحيى “بالتحليل موسيقى فيلمي : “ابن النيل” وسيدة القطار” للموسيقار إبراهيم حجاج ، و أفلام  “صراع في الوادي” وشيطان الصحراء” وصراع في الميناء” وباب الحديد” ونداء العشاق” وإسكندرية ليه” للموسيقار فؤاد الظاهري ، و أفلام  “رمال من ذهب”، “الأرض”، والاختيار” والعصفور” للموسيقار علي اسماعيل ، وموسيقى فيلم  “حدوته مصرية” للموسيقار جمال سلامة ، وفيلمي  “اليوم السادس” وسكوت ح نصور ”  للموسيقار عمر خيرت

  موسيقى ” الأستاذ “

 تؤكد “يحيى ” : ” تعاون يوسف شاهين فى أغنيات أعماله مع عدد كبير من الشعراء والملحنين من بينهم محمد نوح وكمال الطويل ويحيى الموجي وياسر عبدالرحمن وعمر خيرت وجمال سلامة وفاروق الشرنوبي، كما تعاون شاهين مع فريد الأطرش وشادية في فيلم “أنت حبيبي” وأيضا مع فيروز والأخوين رحباني في فيلم “بياع الخواتم”، كما قدم عددا من الأصوات  المهمة منها ماجدة الرومي فى  فيلم “عودة الابن الضال”، ولطيفة في فيلم “سكوت حنصور”، أما محمد منير فهو حالة خاصة بالنسبة لشاهين وقد تعاونا معا في أكثر من فيلم حيث بدآ بـ”حدوته مصرية” وأتبعاه بفيلم “اليوم السادس” ثم فيلم “المصير وعلى الحجار فى فيلم “إسكندرية نيويورك ” .

وترى  رانيا يحيي أن : ” هذا التعدد لشاهين في اختيار المؤلفين الموسيقيين يعبر عن مدى اهتمامه بعنصري الموسيقى والغناء ومدى أهميتهما في أفلامه وكيفية توظيفهما وأيضا رأيه كمخرج في مدى ملاءمة كل مؤلف موسيقي لموضوع الفيلم، على أساس أن يتم اختيار المؤلف الموسيقي الذي سيحقق له وجهة نظره ويترجم له إحساسه الداخلي في شكل موسيقي، كما ترى أن شاهين كان  هو الذي يسيطر على المؤلف وليس العكس، بحيث يصبح تحت تأثير إحساس مؤلف واحد في جميع أفلامه، وبالفعل استطاع شاهين أن يصل بموسيقى أفلامه إلى هذا الحد، حيث ترتبط في الكثير من الأذهان موسيقى وأغاني أفلامه بالموضوع حينما يسمعها المتلقي، لأنه وضعها داخل نسيج الأحداث الدرامية ذاتها بشكل عبقري. كما لا نستطيع إغفال عبقرية هؤلاء الموسيقيين الذين استطاعوا تحقيق تلك الرؤية السينمائية والتعبير عنها بكل هذا النجاح”.

https://www.youtube.com/watch?v=ugI_cnUouT0

الأغنية … الصرخة

 عبر مشوار يوسف شاهين السينمائي كانت الأغنية لديه صرخة مدوية تستقر فى وجدان المشاهد وترتبط بأحداث الفيلم وربما تحمل دلالات أبعد من العمل نفسه لتصبح بقدر امتزاجها بالأحداث بقدر تحولها إلى صرخة احتجاج او ألم أو رفض للظلم أو لوعة عاشق يهيم بالمحب وغير ذلك من المشاعر المتداخلة والمتعددة

كان فيلم ” الأرض ” عام 1970 هو بداية لذلك النوع من الغناء الذى يعتصر المشاعر ويذوب فى تفاصيل الرسالة الفنية للمخرج ولعل صرخة المغنى فى مشهد النهاية قائلا “الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا ” تستدعى بمجرد سماعها صورة الفلاح المصري ” محمد أبو سويلم ” الذى جسده العملاق محمود المليجي وهو يمسك بالزرع متشبثا بالأرض وخيول الاقطاع تسلخ جسده  عقابا له على إصراره والتمسك بأرضه.

 وإذا كان الأرض هو أول  فيلم قدم فيه شاهين الأغنية التي تتماهى مع العمل وتمتزج برسالته الفنية فإن  الأستاذ  قدم الأغنية بشكل عام في أفلام  غنائية بامتياز   سبقت الأرض في صنعها وعرضها   – مثل “إنت حبيبي ” مع فريد الأطرش وشادية عام 1957 ثم قدم مع السيدة “فيروز ” والأخوين رحباني الفيلم الغنائي “بياع الخواتم ” عام 1965

لكن الأرض كانت بداية لمرحلة جديدة بالاستعانة بالغناء كصرخة رفض واحتجاج كما جاء بفيلم ” العصفور ” حينما استعان “شاهين ” بأغنية الثنائي “أحمد فؤاد نجم – الشيخ إمام ” مصر يا أمه يا بهية جاء استخدام الأغنية بتتر النهاية للعمل  في الوقت الذي كان  “نجم – إمام ” يعيشان فى ظل مطاردات أجهزة الأمن ليصبح أول مخرج فى السينما المصرية  يقدم صوت الشيخ إمام.

 وفى عام 1976 كان يوسف شاهين قد بلغ ذروة الولع بالغناء فاستعان بالصوت اللبناني الجديد “ماجدة الرومي ” فى فيلم “عودة الابن الضال ” وتعاون مع الشاعر “صلاح جاهين ” وكل من “كمال الطويل وبليغ حمدي وسيد مكاوي

وقدم خلاله رائعة “مفترق الطرق ” كما واصل شاهين حبه للاستعراض الغنائي وقدم استعراض “الشارع لنا ” والذى شارك فيه أبطال الفيلم بالغناء مع ماجدة الرومي وماهر العطار وهذا ما عاد شاهين لتقديمه فى أعمال تالية مثل ” إسكندرية ليه ” ثم إسكندرية كمان وكمان ” .

وفى عام 1982 نكون مع موعد مع أقرب الأغنيات إلى قلب شاهين وهى أغنية “حدوته مصرية ” التي كتبها عبد الرحيم منصور ولحنها أحمد منيب وغناها صوت سينما شاهين محمد منير .

وفى عام 1986 يأتى صوت “منير ” من جديد عبر كلمات صلاح جاهين وموسيقى عمر خيرت فى فيلم “اليوم السادس ” ويغنى “الطوفان ” كما يمارس “شاهين “هوايته ” ويشارك فى كتابة أغنية “حدوتة حتتنا ” التي يقدمها بطل الفيلم “محسن محى الدين بصوته ” وعلى الرغم من مشاركة المطربة “داليدا ” فى التمثيل إلا أنها لم تقم بالغناء فيه.

https://www.youtube.com/watch?v=r8IsBNs_QAU

ويواصل  شاهين  تعاونه مع صوت منير في فيلم “المصير ” عام 1997 ويقدم من كلمات “كوثر مصطفى ” وموسيقى كمال الطويل عددا من الأغنيات من بينها “على صوتك بالغنا ” وتحولت إلى أيقونة موسيقية وصرخة يستدعيها الوجدان العربي فى لحظات التحدي.

ويمارس “شاهين ” هوايته العنيدة وهي الوقوف على كل تفاصيل العمل بما فيها الموسيقى والألحان ولعل الأزمة الشهيرة التى نشبت بينه وبين الملحن كمال الطويل خلال تسجيل أغنية “على صوتك ” تؤكد ذلك حيث تمسك شاهين بتغيير لحن الأغنية فى جملة “أرقص … غصب عني أرقص ” على أن يعقب كلمة “أرقص ” الأولى لحظة صمت بينما تمسك “الطويل “بلحنه الأصلي الذى قدم به جملة موسيقية بعد كلمة “أرقص ” وتصاعدت الأزمة وهدد الطويل باللجوء للقضاء وتمسك شاهين بوجهة نظره وفى لحظة هدوء استمع “الطويل ” للأغنية بعد أن سجلها منير فاكتشف جمالها ومن ثم وافق على تمرير اللحن وفقا لوجهة نظر المخرج .

وفى فيلم “الآخر “عام 1999 يعود شاهين  للتعاون مع صوت “ماجدة الرومي ” وموسيقى كمال الطويل ويقدم من كلمات الشاعر جمال بخيت أغنية “آدم وحنان ” ثم وفى 2001 يقدم المطربة “لطيفة “لأول مرة على شاشة السينما من خلال فيلم “سكوت ح نصور ” ويتضمن الفيلم عددا من الأغنيات فى تعاون متواصل مع عمر خيرت والشاعر  جمال بخيت الذى كتب أشهر أغنيات الفيلم “تعرف تتكلم بلدى ” كما قدمت الشاعرة كوثر مصطفى كل من “أنادى ” و”قبل ما ” والمدهش أن  يوسف شاهين قام بنفسه بتلحين أغنية ” قبل ما ” والتي كان ” كمال الطويل ”  مكلفاً بها لكنه تأخر فى تسليم اللحن عن الموعد المقرر مما دفع شاهين إلى تلحينها بنفسه .

كورس في عالم “جو”

وفى 2004 يقدم شاهين آخر حلقات سلسلة سيرته الذاتية بفيلم “اسكندرية – نيويورك ” ويكون الغناء حاضرا بقوة من خلال صوت على الحجار وهدى عمار وموسيقى فاروق الشرنوبى وكلمات جمال بخيت ويتضمن الفيلم عددا من الأغنيات يظل أكثرها انتشارا وحضورا فى ذاكرة المشاهد أغنية “بنت ولد ” .

وفى آخر أعماله “هي فوضى ” عام 2007 يتعاون شاهين مع الموسيقار “ياسر عبد الرحمن ” ويقدم صوت “ممدوح بيرم ” أغنية ” هو إنتى ليه بعيدة كدة ” من كلمات الشاعر إبراهيم عبد الفتاح.

وبذلك تنتهي أغنية يوسف شاهين التي امتدت لسنوات كثيرة  تنوعت موسيقاها لكنها ظلت واحدة رغم تعدد ملحنيها وكأن الأستاذ قد نفخ فيها من وجدانه لتصير ملحمة متواصلة منذ “الأرض ” حتى “هي فوضى ” أغنيات تصرخ بالرفض والحب والحياة

تتنوع أصوات مطربيها وكأنهم “كورس ” في عالم يوسف شاهين يتعاون مع العديد من الشعراء وكأنهم شاعر واحد رغم التنوع ويظل “جو ” هو المغنى الحقيقي الذي يطل برأسه ونظارته السميكة من خلف كل نوتة موسيقية وكل لفظة شاعر وكل حنجرة مغنى .

فقد منح “شاهين “الأغنية دور البطولة في أعماله بعد أن كانت مجرد وسيلة لانتشار مطرب أو إضفاء نوع من الألفة والبهجة على فيلم سينمائي فجاء شاهين ليجعل الأغنية نسيجا  يدخل في سياق الفيلم ويمتزج به ليكون عنصرا فاعلا وحاضرا وليس مجرد  شئ يمكن الاستغناء عنه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock