في التاسع من سبتمبر من عام ١٨٨١ شهدت شوارع وميادين العاصمه المصريه القاهره حدثاً تاريخياً غير مسبوق وهي مظاهرة ميدان عابدين.
تقدمت صفوف الجنود بقيادة الضابط الفلاح الثائر أحمد عُرابي الى الميدان حيث قصر خديوي مصر وسليل مؤسس الجيش المصري الحديث محمد علي باشا تحفها هتافات الشعب المؤيدة لحراكهم والمباركة لخطواتهم والداعية لهم.
ثم وصل الركب إلى قصر عابدين ليضع العٌرابيون أو الضباط الثائرين كما باتوا يُعرفون لاحقاً نسبة إلى قائدهم مطالب الشعب أمام الخديوي والتي لم تقتصر على مطالب المؤسسة العسكرية التي ينتمون اليها وانما كانت في مجملها تعبيراً عن الرغبة في الانتقال من حكم فردي استبدادي مطلق يمارسه الخديوي بدعم من الدول الأوروبية الاستعمارية وخاصة من كل من بريطانيا وفرنسا إلى حكم نيابي دستوري يحقق لمصر الاستقلال الوطني والسيادة كما يشي شعار الحركه “مصر للمصريين”.
والمتأمل لهذا المشهد وما تلاه من أحداث باتت تعرف باسم الحوادث العٌرابيه كما أسماها المؤرخون ٫ يدرك آن ثمة ظاهرة متكررة، أو قل آفة متكررة، في الثورة العٌرابية التي تحل ذكراها في هذا الشهر وفيما تلاها من ثورات في تاريخ مصر٫ وهي ظاهرة ال”باشوات”.
فرغم أن الباشوات أو كبار ملاك الأراضي الزراعية كانوا من المنادين بالدستور والحياة النيابية قبل الثورة، إلا أنهم سرعان ما تنكروا لكل هذا لاحقا، فتراجع محمد شريف باشا واضع الدستور المصري عن المطالبة بمراجعة الميزانية كيلا يثير غضب الدول الأوروبية ثم لم يلبث أن استقال من رئاسة الوزارة التي أتى إليها بسيوف الوطنيين حين لوحت إنجلترا بالتدخل العسكري في مصر.
والأمر ذاته تكرر مع سلطان باشا رائد الحياة النيابية، فسرعان ما ألقى بذاته في معسكر الخديوي والبريطانيين وطالب بإبعاد قيادات الثورة!
لم يستغرق الأمر طويلا من الوطنيين ليدركوا أن الباشاوات يريدون الإصلاح لا الثورة، يريدون تحسين الوضع القائم لا تغييره كليا لما قد يترتب على هذا التغيير من مساس بمصالحهم الاقتصادية والاجتماعية.
تكرر الأمر ذاته في ثورة 1919، حيث نظر الباشاوات بعين الريبة والقلق للفلاحين وهم يحملون السلاح ضد المحتل البريطاني كما حدث في صعيد مصر وخاصة في أسيوط، وكانت ذاكرتهم لا تزال تحوي مشاهد مماثلة من حقبة الثورة العُرابيه استولى فيها الفلاحين على أراضي الخونة منهم مثل سلطان باشا ووزعوها فيما بينهم في عملية إصلاح زراعي سبقت تجربة الرئيس عبد الناصر بنحو 70 عاماً.
خشي الباشاوات أن يتحول سلاح الفلاحين إليهم فسارعوا للقبول باستقلال شكلي لا يهدد مصالحهم وتنكروا لرمز الثورة ، سعد زغلول، القادم من صفوف الفلاحين والذي كان يرى في “أصحاب الجلاليب الزرق” على حد تعبيره٫ عماد الثورة المصرية.
وتكرر الأمر مرة أخرى في انتفاضة الخامس والعشرين من يناير 2011، حين هبط ال”باشاوات” عليها ب”الباراشوت” سواء من إرتدى منهم بدلة “الليبرالية”- ونظارتها أحيانا- أو من تدثر منهم بعباءة الإسلام.
فرغم كافة الخلافات السطحية بين هذين الطرفين، من نوعية “دستور ام انتخابات” أو ما ترتديه المرأة وما لا ترتديه، إلا أن جوهر الباشاوات واحد.
فليس ثمة حديث عن استقلال وطني ولا عن إنهاء التبعية وإنما العكس تماما، انهمك الباشاوات منذ اليوم الأول في إرسال التطمينات الى واشنطن أن الأمر باق كما هو وأن معاهدة كامب ديفيد ستبقى “تابوها” محرماً لا يمس ، بشكل يذكر بموقف شريف باشا الذي أكد في زمانه ضرورة “احترام المعاهدات الدولية”.
ولا حديث عن الفقراء ولا مطالبهم ولا احتياجاتهم التي خرجوا لأجلها غير مبالين بالموت، بل استغراق في تحسين شروط التبعية لا الخلاص منها.
ولا حديث عن حقوق لعمال أو فلاحين بل تعال عليهم وعلى احتجاجاتهم ونعت لها ب”الفئوية”!
خلاصة القول، إن الباشوات كانوا ولا يزالون وسيظلون أداة المستعمر وعونه، وأن من يظن أن أية ثورة أو انتفاضة شعبية يمكن أن تنجح بواسطة مهادنتهم، ينتهي به الحال في سيلان مثل عُرابي أو في سيشل مثل زغلول.