عندما ظهرت رواية Invisible Man (الرجل الخفي)، التي تؤرخ لرحلة بطلها (الذي لا يحمل اسما) من الجنوب الأمريكي إلى حي هارلم بمدينة نيويورك، كانت الولايات المتحدة الأمريكية بأسرها ترزح تحت نير العنصرية بحكم قوانين “جيم كرو” التي تقر الفصل العنصري بين السود والبيض وبحكم الثقافة والإرث التاريخي.
إزاء ذلك، شهدت السنوات التي أعقبت ظهور الرواية في عام 1952 حراكا سياسيا واجتماعيا قويا، تمخض عن صدور حكم تاريخي عن المحكمة العليا الأمريكية في القضية التي تُعرف باسم “براون ضد مجلس التعليم” أنهى حقبة من الفصل العنصري داخل المدارس، وقضى بعدم دستورية مبدأ “منفصل لكن متساوي”.
ومن ثم، فقد استهدفت رواية Invisible Man بشكل مباشر تفكيك المنظومة الأخلاقية المنحرفة للمجتمع والدولة الأمريكية، التي ألهمت القابعين في السلطة إيمانا لا يلين بأن مبدأ اعتبار السود مواطنين من الدرجة الثانية لا يمثل خروجا عن العدالة، أو انتهاكا لحقوق الإنسان، وهو ما دفعهم بقوة إلى فرضه، وممارسته دونما أدنى مراجعة أخلاقية أو احتكام إلى ضمير.
كانت مهمة الكاتب في رسم الأنماط الاجتماعية التي تمخضت عن هذه المنظومة الأخلاقية تتطلب دقة تاريخية بالغة. فعلى سبيل المثال، صدر قرار إنهاء الفصل العنصري في المدارس الحكومية بعد نشر الرواية بعامين فقط، وهو ما دفع إليسون للإعراب عن ارتياحه الشديد لأنه سجل في روايته نمط شخصية “د. بليدسو”، الذي مارس هذه العنصرية من موقعه كرئيس لكلية “نيجرو كوليدج”، قبل أن يحكم التغير الاجتماعي على هذا النمط بالفناء.
رغم ذلك، تبقى الرواية بعيدة كل البعد عن التاريخانية ( أي ارتباط العمل الأدبي بحقبة تاريخية بعينها)، ومتحررة من غل الزمن. فالرواية تخاطب الألفية الثانية بالقدر الذي تخاطب به منتصف القرن الماضي.
وفي كتابهاThe New Jim Crow: Mass Interaction in the Age of Colorblindness ، تؤكد ميشيل ألكسندر أن قوانين جيم كرو (التي كانت تقر الفصل العنصري) “لم تنسحق بعد تحت وطأة انتصار حركة الحقوق المدنية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ولكنها فقط اختفت بهيئتها القديمة”.
وفقا لالكسندر، فإن قوانين جيم كرو العنصرية تشبه بطل الرواية، الذي لا يحمل اسما، والذي لا يلبث أن يختفي حتى يعود بقناع جديد، لكن هذه المرة عبر سياسات أكثر عنصرية تهدف إلى الارتداد بالزمن إلى ما قبل نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين.
هذا الشعور بأن السود الأمريكيين لا يناضلون ضد أوضاع اجتماعية وسياسية جديدة، وإنما يكررون تجربة تاريخية سابقة، أصبح متجذرا في كثير من الأوساط. في ضوء ذلك أتت مسرحة هذه الرواية في عام 2012 على مسرح Court Theatre في شيكاغو لتؤكد أن العالم الذي نعيشه حاليا تشكل بالأساس على يد المجتمع الذي أنتج المشاعر والآلام التي ألهمت إليسون في حقبة سابقة.
ربما تغيرت القوانين، واندثرت بعض الأنماط الاجتماعية تحت وطأة حركة التاريخ. لكن الرواي في قصة Invisible Man يندد طوال الوقت بفكرة التقدم الخطي للتاريخ (أي أن التاريخ يسير في خط طولي ولا يكرر نفسه). كما أن كثيرا من أحداث الرواية تنذر بصورة مخيفة بالواقع الآني. فمقتل إريك جارنر على يد أحد أفراد الشرطة الأمريكية في عام 2014، هو استنساخ لمشهد مقتل “تود كليفتون” في الرواية، تماما مثل احتجاجات الشارع التي أثارتها كلتا الواقعتين.
رفض الشارع لقتل إريك جارنر
يتعمق معنى دائرية التاريخ (أي أن التاريخ يسير في شكل دائري ويعيد نفسه) بصورة كبيرة من خلال البناء التكراري في الحبكة، فجميع الخبرات المحبطة التي عاشها الراوي تكشف عن نفسها كنسخة من المحاولات التي سبقتها لتجريد البطل من إنسانيته. كما أن رئيس الكلية والكلية يتحولون في نهاية المطاف إلى ’الأخ جاك والأخوية‘، اللذين يمثلان بدورهما وجها آخر للحزب الشيوعي الأمريكي.
لكن.. برغم هذه الدائرية الصارخة في حبكة الرواية، التي تبدأ وتنتهي بمشهد البطل الذي يقبع في حفرة تحت الأرض، ويفكر مليا في العودة إلى السطح، حيث لا يزال بإمكانه الاضطلاع بدور إجتماعي مهم، إلا أن إليسون – كما يتجلى في الرواية، وفي أغلب كتاباته النقدية التي تبعتها – يبدو مفعما بالتفاؤل بأن الولايات المتحدة ستحقق يوما حلم مجتمع العدالة والديمقراطية، وستثبت روايته، وغيرها، أنها كانت أداة مهمة لبلوغ هذا الحلم.
يثير هذا الإيمان بالمستقبل إليسون ضد تيار فكري بارز ينتشر حاليا يحمل اسم Afro-Pessimism (التشاؤم الأفريقي). يؤمن هذا التيار بأن أساس أفكار حقوق الإنسان والإنسانية المشتركة يقوم على إخضاع السود في جميع أنحاء العالم. وحيثما يرى إليسون تناقضا بين الواقع والمثال، يرى هذا التيار منطقا محكما في تحول الأدوات السياسية والاقتصادية والاجتماعية – التي من المفترض توظيفها من أجل خلق عالم أكثر عدالة – إلى أدوات تكرس للعبودية.
إن هدف الرواية يكمن بالأساس في إلقاء حجر في الماء الراكد لمساءلة السياسات والممارسات التي أودت بالعالم إلى هذا المسار عبر الأزمان. ربما لا يؤمن إليسون – برغم تفاؤله – بفكرة الكمال، ويؤكد أنه كلما ارتقى الوعي البشري، أدرك أن “خلف واجهة التنظيمات الاجتماعية والأخلاق والدين تكمن الفوضى”. ولكن.. إذا كانت فكرة الكمال غير واردة في هذا العالم فإن بمقدور الفن أن يجعله أكثر إنسانية.
*هذه المادة مترجمة