” ارم حجرًا في بحيرة، لن يكون تأثيره مرئيًا فقط، بل سيدوم طويلًا ، إذ سيعكر صفو المياه الراكدة وسيشكل دائرة في تلك البقعة، وبلمح البصر ستتسع تلك الدائرة وتشكل دائرة إثر دائرة ولن تتوقف هذه الدائرة وتتلاشي إلا عندما تبلغ الشاطئ، سقوط الحجر في بحيرة راكدة يعني أن البحيرة لن تعود هي ذاتها مرة أخري. أما إذا ألقيت حجرًا في النهر الدافق فإن النهر سيعتبره مجرد حركة أخرى من الفوضى في مجراه الصاخب المضطرب، لا شيء غير عادي، لا شيء لا يمكن السيطرة عليه”.
هذا ما كتبته (إليف شفق) في استهلال روايتها الشهيرة (قواعد العشق الأربعون)، كانت الرواية حجرًا ضخمًا ألقي في ماء الأدب فحركته بإبداع متميز ومختلف حتى أن الرواية ترجمت لأكثر من ثلاثين لغة وأحدثت دويًا لفت الأنظار بقوة لاسم الكاتبة التركية.
(إليف شفق) كاتبة تحمل في تكوينها عناصر عدة فهي تركية شابة مسلمة عاشت غالب حياتها في الغرب من أمريكا إلى لندن وتشبعت بالثقافة الغربية المعاصرة، لم تنس هويتها الأصلية، ولم تنس أيضا أنها إمرأة، حضورها الأنثوي واضح في ثنايا كتاباتها، وفي هذه الرواية الأشهر والأكثر نضوجًا لديها يكمن تساؤل محدد وراء كل الأحداث: ماذا يعني هذا التنوع الكبير بين البشر؟
ديانات مختلفة مسلم ومسيحي ويهودي وغيرهم، أعراق متعددة ولغات متباينة، مليارات من البشر تعيش على الأرض ومليارات عاشت في السابق، كيف يتعايشون؟ ولماذا كل هذه الحروب والخراب والظلم الذي يسحق الكثيرين؟ ألا توجد صيغة ملائمة للتعايش الآمن المنتج؟.
تأخذنا الكاتبة في مستهل الرواية لقصة (إيلا) بطلتها، إنها تشبه ملايين النساء في كل مكان، تخرجت من الجامعة بتفوق وتزوجت مبكرًا عن حب من (دافيد) طبيب الأسنان، اختارت البقاء في المنزل لرعاية أسرتها وعاشت عشرين عامًا ربة بيت. هنا تأخذنا المؤلفة مع (إيلا) إلى مطبخها والأكلات التي تعدها لأسرتها، وبينما (إيلا) تطبخ وترعى أولادها الثلاثة وبيتها وتغض الطرف عن نزوات زوجها الخفية وتشعر بالرضا عن تضحياتها في سبيل الجميع تفاجئها ابنتها الكبرى طالبة الجامعة أنها ستتزوج زميلها وحينما اعترضت الأم لصغر سنهما أطلقت البنت سهامها في وجه أمها: “واضح أنك لم تعرفين الحب يوما، تريدين أن أكون نسخة منك، ربة بيت محبطة حزينة”.
يا لقسوة الأبناء حين يوجهون سهامًا حادة لأبويهم ولا يعرفون كم تؤذيهم كلماتهم الطائشة، في تلك اللحظة دق تليفون الأم، إنها رسالة من دار النشر التي قدمت لتعمل بها وقٌبلت كمراجعة لمخطوطات الروايات التي تصلهم وإبداء الرأي فيها، فالقراءة الأدبية وخاصة الروايات كانت هوايتها الوحيدة، كانت الرسالة تستعجلها في التقرير الذي عليها تقديمه لأول رواية تعمل عليها.
في نفس اليوم وصلتها هدية من زوجها مرفقة ببطاقة كتب فيها (إلي عزيزتي إيلا: المرأة هادئة الطباع، ذات القلب الطيب، التي تتحلى بصبر قديسة، أشكرك لأنك تقبلينني كما أنا، أشكرك لأنك زوجتي… زوجك دافيد). عندما قرأت البطاقة شعرت أنها تقرأ نعيًا، قالت لنفسها: هذا ما سيكتبونه عني عندما أموت .
وهكذا بدأت مراجعة الرواية، وجدت المؤلف (عزيز زهارا) كتب على بطاقة ملونة (تدور أحداث الرواية المرسلة طيه في القرن الثالث عشر في قونيه بآسيا الصغري، لكنني أظن بصدق أن أحداثها تسري علي جميع البلدان والثقافات والقرون). كان القرن الثالث عشر في منطقة الأناضول مٌفعمًا بالصراعات الدينية والنزاعات السياسية والصراعات اللانهائية علي السلطة.
تدور رواية (قواعد العشق الأربعون) عن جلال الدين الرومي الملقب بمولانا الشاعر التركي صاحب (المثنوي) ولقائه مع شمس التبريزي الدرويش المميز.
هكذا بدأت المؤلفة تسير قدمًا في الروايتين على التوازي وكل منهما تؤثر في الأخرى، فمثلما دخل شمس التبريزي حياة الرومي فجأة فقلبها رأسا علي عقب وحرك مياهها الراكدة، دخل المؤلف عزيز زاهارا حياة إيلا عبر مراسلات عديدة بينهما بخصوص الرواية ثم بخصوص حياة كل منهما التي تغيرت، وانتهت إيلا الهادئة التقليدية إلى طلب الطلاق من زوجها بعد أن تغيرت بحيرة حياتها للأبد.
من لا يعرف قصة مولانا جلال الرومي سيعرف كل شيء في أحداث الرواية. كيف يراها ويقيمها؟ .. هذا شأنه.
كان مرادها النهائي أن ثقافة الحب هي ما يجب أن يجمع الناس معًا وهي تقوم على التعارف والتغاضي وعدم الانشغال بأحوال الغير فلكل إنسان عالمه الخاص ودوافعه وظروفه ولن يقدرها حقًا سوي خالقه ومولاه، والابتعاد عن ثقافة الكراهية التي تبدأ بتصنيف الناس وإصدار أحكام عليهم ثم تتبع عوراتهم ثم معاداتهم وكرههم وهو ما يخلق المناخ الذي تزدهر فيه الحروب والمشاحنات والعمليات الإرهابية حين تصل الكراهية حد تفجير النفس لإيذاء الغير وتدميره.
الرواية تطرح أسئلة أكثر مما تعطي إجابات وتعرض المفهوم الصوفي التركي بشكل كبير، وسواء اتفقت أو اختلفت معها فهي نجحت في إلقاء حجر في بحيرة التفكير يجعل كل منا يخرج بأجوبة مختلفة، وهذه مهمة الأدب الأولى، التفكير وليس التلقين، وإن اختلفت مع كل كلمة كتبها الأديب.