ما أروعها من كلمات تلك التي يزيدها الزمن جمالا؛ كلما عاد المرء إليها ليجد نفسه غارقا في سطور الحكاية، وأنفاسه تصعد وتهبط وهو يترقب مصير أبطال من ورق، تشبعوا بأحاسيس وانفعالات صادقة جعلت الدم يجري في عروقهم وكأنهم من لحم ودم.
هذا هو شعور القارئ، وهو يلتهم المجموعة القصصية الرائعة “الخطوبة” للمبدع الكبير بهاء طاهر، والتي صدرت طبعتها الرابعة منذ عدة أيام عن دار الشروق.
خمسون عاما مرت على صدور المجموعة التي تعد باكورة أعمال الأديب الكبير والتي صدرت في عام 1972.
“مشغول بهاء طاهر بروح الإنسان، دوما يسعى إلى استرجاعها.. إنقاذها من الهلاك.. من الضياع.. من القبح.. من سطوة الكره.. من وحل الأشياء.. وغبار الزمان والمكان.. مشغول انشغال القديسين والفنانين الكبار، يرى الماضي يسرع إلى النسيان، والحاضر يجري متحولا إلى ماضٍ، فيستدعي كل عزمه، كل إحساسه المرهف، كل ذاكرته الحافظة الفائقة القدرة على التخزين، ليقيم من هذا كله سدا عاليا يحول بين الزمن وبين أن يعدو على قيم يريد لها بهاء طاهر أن تظل باقية” هكذا احتفى الناقد الكبير الدكتور على الراعي بالمجموعة عندما صدرت أول مرة.
يكتب بهاء طاهر بقلبه لا بقلمه.. هذه الحقيقة التي يدركها القارئ عندما يغوص في هذه المجموعة القصصية البديعة، حيث لا وجود تقريبا لأي وسيط بين شخوص الحكاية، ومن يطالع سطورها، إذ تمكّن بها طاهر بقدرة سردية فائقة أن يزيل كل الحوائط والجدران، مُحدثا حالة من التوحد بيننا –نحن معشر القراء– وبين الأبطال.
طوال المجموعة القصصية.. أحسب أن كل قارئ يجد له شبيها أو نظيرا، جمع بينهما كأس الحزن والفرح اللذين يتناوب كل البشر احتساء أنخابهما على مدار الزمن.. يبدو بهاء طاهر من البداية مهموما بالتفتيش عن الإنسان الذي أثقلوا روحه بأشياء كثيرة، ما أنزل الله بها من سلطان وحولوا حياتهم إلى جحيم لا يطاق.
يعزف بهاء طاهر على ما يمكن وصفه بوتر الخلاص البشري، من طوفان مفاهيم مغلوطة، وعادات بالية؛ سعت إلى جعل كلنا منا جسد بلا روح.. القاعدة أنك كي تبقى مرضيا عنك يجب أن تسلم بأن تعيش مفعولا به أبدا الدهر، هكذا نتحرر على وقع بصيص التنوير الذي يغشى عقولنا قبل أعيننا ونحن ننتقل من قصة قصيرة إلى أخرى في تلك المجموعة التي لا يمكن أن تكون باكورة أعمال عملاق قصصي، وروائي كبير بحجم العظيم بها طاهر الذي يكتب بروح العليم بهموم مجتمعه وقضايا الناس.
منذ القصة الأولى، والتي تحمل المجموعة القصصية اسمها “الخطوبة” نرى كيف يمكن أن يلوث ماضي؛ لم يكن للإنسان أي يد فيه – حاضره ويدمر مستقبله إلى الأبد، في مجتمع ما أسهل أن تتحول الشائعة فيه إلى حقيقة عندما تتناقلها الألسنة حيث يبقى الإنكار عدميا.
أي ذنب ذلك الذي جناه شاب أحب زميلته، التي تعمل معه في أحد البنوك، وقرر أن يدخل البيت من بابه، وأن يطلب يدها من أبيها؟ يستعد لتلك اللحظة طويلا، يذهب ليرتدي بدلة جديدة، ويمنح البواب لأول مره في حياته بعض النقود، ويطلب منه أن يدعو له في مهمته.
كل شيء ينهار في لحظة واحدة، ويتحول حلم الإنسان في زوجة تسعده، إلى كابوس يطارده في صحوه ونومه، يجد الشاب والد خطيبته كالأفعى التي تلف جسدها حول عنقه، يشعر بالسم يسري في جسده، يجد نفسه متهما؛ لا حول له ولا قوة في أعز ما يملك، يحاول جاهدا أن يدافع عن نفسه، لكن الأب يسد عليه كل السبل ويحكم الخناق حول عنقه.
يفضي له والد محبوبته بأشياء لم يسمع بالكثير من تفاصيلها من قبل “هناك خلاف حول الميراث بينك وبين أعمامك، ولذا فإن علاقتهم بأبيك منقطعة منذ زمن طويل، وهناك أقاويل كثيرة تردد أنك كنت سببا في قيام خالك بتطليق زوجته، بعد أن ضبطك متلبسا معها، يهتز كيانه بشدة ويدافع عن نفسه باستماته؛ لكنه يدرك أن جميع أحلامه قد انهارت، وأن أشباح الماضي جاءت لتفسد الحاضر”.
يحاول المقاومة؛ ولكن الأب يهدد بفضحه إذا لم يبتعد عن ابنته، ويعده بأن يفعل كل ما من شأنه أن يبغضه فيها، يقبل على مضض خوفا من فضيحة لا تبقي ولا تذر.
في قصة “الأب” نرى كيف ينهار الحب سريعا بين الأزواج بفعل ضغوط الحياة حيث تتحول العلاقة الخاصة بينهما بعد مرور فترة من الوقت إلى واجب يجب أن يؤدي دون مشاعر أو أحاسيس، تزداد وتيرة الخلاف حينا وتقل حينا، وتمضي الحياة وفق قاعدة تنازل هنا مقابل تنازل هناك.
أما في قصة “الصوت والصمت” فقد نجح بهاء طاهر في أن يجسد مأساة المرأة عندما يرحل عنها زوجها، ويترك لها ثروة ممثلة في عمارة سكنية، حيث لا يتورع أشقاؤه عن اتهامها بارتكاب جريمة الزنا مع البواب، من أجل أن يستولوا على الميراث.