لقد تطورت اللغة العربية على مستويين الأول: عام والآخر خاص فكيف كان ذلك؟ يذهب عدد من اللغويين إلى أن اللغة العربية قد تنامت تناميا واضحا في مستواها العامي، إذ ينحو هذا المستوى منحى وجدانيا، كما يعتمد مادية المعاني والتعبيرات الحسية والمتشابهات بشكل عام، ولا شك أنَّ قابلية التطور السريع في هذا المستوى ترجع إلى أنَّه متداول على الألسنة لا ينام في بطون أمهات الكتب!
أما لغة الخاصة أو المستوى الثاني فالمقصود به ما ساد بين علماء وفقهاء وفلاسفة الأمة ونُحاتها، وهو- بالطبع- يمشي الهوينى في تطوره لما يعتمد عليه من تراكيب ذاتية معقدة، بحسب ما قُعّدت عليه من الأصول العلمية؛ لتعبّر عن مكنونات كل علم وتخرجه من حيث الصياغة إلى حيز الوجود، وهذا ما يمنحها قيمتها، وكذلك قدرتها على التعبير المحكم الأصول الدقيق المعاني، فاللغة هنا تصبح منوطة بتجزيء الواقع وفق بُنى خاصة بعلومها، مع إعادة ترتيب له في صورة أوضح بيانا وأرسخ أساسا.
ما بين هذين المستويين المذكورين تماس يصل إلى حد العلاقة القوية، فمع مرور الوقت يفيض المستوى العامي على المستوى الخاص بما تواطأ عليه الناس من تعبيرات وألفاظ ومفردات لا يمكن بحال أن تصير إلى النسيان، بل يلزم لبقائها أن ترتقي بالتحول من الحسي إلى العقلي ومن الجزئي إلى الكلي ومن التوافقي إلى التوقفي.
ووفق هذا استطاع الفارابي أن يكون صاحب الدور الأبرز في وضع الأسس العامة لعلم اللغة إذ قسم علم اللسان إلى قسمين كبيرين: علم اللسان العام، وينقسم إلى جميع المفردات وعلم قوانين المفردات، وعلم اللسان الخاص الذي ينقسم إلى علم الألفاظ المفردة والمركبة، وعلم قوانين الألفاظ المفردة والمركبة وعلم قوانين الكتابة والقراءة وعلم الأشعار، كما بين الفارابي العلاقة بين اللغة والمعرفة وكيفية نقل الألفاظ الفلسفية من أمة إلى أمة أخرى، إذ قال “ينبغي أن تؤخذ المعاني الفلسفية إما غير مدلول عليها بلفظ أصلا، بل من حيث هي معقولةٌ فقط، وإن أخذت مدلولا عليها بألفاظ، فإنَّما ينبغي أن تؤخذ مدلولا عليها بألفاظ أي أمةٍ اتفقت، والاحتفاظ فيها عندما ينطق بها وقت التعليم لشبهها بالمعاني العامية التي منها نقلت ألفاظها”.
وهو من أكد أيضا أنَّ سبق الصنائع العامية كالأقاويل الخطابية والشعر والرواية والأخبار، كان أساسا لحدوث الصنائع القياسية كالطرق الخطبية والجدلية والبرهانية.
ولاشك أنَّ تداخلا ما قد حدث بين المستويين المذكورين آنفا (العامي والخاص) وأنَّ هذا التداخل قد أسهم في خلق إشكالية لغوية تطرح عديدا من الأسئلة عن كونها -أي اللغة- قد تمكنت من صياغة خصوصيتها الفلسفية بشكل حقيقي، أم أنَّها قد استعارت من غيرها أسسا فكرية دخيلة.. ما يقطع بانتفاء تلك الخصوصية؟
في هذا يشير د.جهامي إلى: إنَّ طرح هذه الإشكالية يفرض علينا سلوك طريقين: إحداهما تحليلية/ نقدية تتناول تاريخ تكوين اللفظ الفلسفي العربي ومحاولات الفلاسفة في ضبطه وصياغته مع ما رافقها من تقلبات وعثرات والثانية استنتاجية/عملية تقوم على المقابلة بين واقع اللغة الفلسفية العربية في أصولها، وحاجتنا إليها متطورة اليوم؛ إيذانا بإيجاد أفضل الطرق لاستعمالها في تحقيقنا الفلسفي المعاصر، فالطريق الأولى تعيدنا إلى أوائل مفكري العرب والمترجمين الذين حاولوا وضع لغة فلسفية جديدة؛ لنحلل طبيعة ألفاظها وأبعادها. وتقتضي منا كذلك البحث في تداخل هذه الألفاظ عينها مع مصطلحات علوم أخرى كالكلام والتصوف والفقه. إذ منهم من حاول إخراجها من حيزها الطبيعي وفتحها على المعنى الفلسفي، ثم استعمالها في سائر العلوم؛ ومنهم من فضل الإبقاء على صيغتها وأصالتها كونها تفي بالأغراض الدينية والفكرية والبرهانية، أما الطريق الثانية فهي تصلنا بنتاج لغوي تفاعل فيه الأصيل مع الدخيل؛ لتخوِّلنا تثبيت اللفظ أو غربلته؛ ترسيخًا لأصول لغة فلسفية نفتقدها عندما نعبِّر عن أفكارنا أو ننقل ونعرِّب. سيتم ذلك بعد تحديدنا أبعاد اللفظ الفلسفي العربي من خلال عملية الوضع والتوليد هذه.
ولعل هذا الطرح السابق يشير إلى ضرورة تخليص الفلسفة العربية من شبهات عديدة لحقت بها منذ أمد بعيد، كونها ليست تصلح لغة فلسفية أصيلة، بل إنَّ الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان ذهب في غلواء هوسه العنصري إلى القول بأنَّ الفلسفة “حاميَّة” إذ ليس للعقل السامي القدرة على التعامل معها، كما أنَّ اللغات السامية أعجز عن احتواء الفلسفة وخاصة اللغة العربية، ولاشك أنَّ رينان قد نال نصيبه من النقد اللاذع الذي يستحقه غير منقوص، وذلك لتهافت أطروحته التي أسقطها بنفسه في غير موضع من كتابه ابن رشد والرشدية، ولعل الدكتور عاطف العراقي -رحمه الله- كان من أوائل من فطنوا إلى أهمية تحرير المصطلح الفلسفي العربي، وإزالة كل لبس وإبهام علق به، على مر العصور، وصولا إلى بعث جديد للفلسفة العربية، وكان قد وضع خطة لإنجاز ذلك تتلخص في: البحث الدقيق في المعجم الكبير عن المصطلحات الفلسفية ووضعها بتعريفاتها بشكل موجز قدر الإمكان مع المحافظة على الوضوح، ثم بيان الصلة بين معنى المصطلح في كل مجال من هذه المجالات: علم الكلام- فلاسفة الإسلام- صوفية الإسلام.. ومعناه عند استخدام نفس المصطلح في المجالين الآخرين، وتحديد المصادر الدينية الإسلامية وغيرها من المصادر في دراسة كل مصطلح، وبيان معناه في مجال الفلسفة العربية ومعناه في مجال ما سبقها من فلسفات كالفلسفة اليونانية، والاستعانة بكل المصادر المتاحة التي من شأنها ثبت المصطلح، وقد ذكر العراقي أسماء عدد من المصادر.. كالتعريفات للجرجاني ومفاتيح العلوم للخوارزمي .
وأخيرًا رأى أن يتم التركيز على بيان معاني المصطلح من خلال الرجوع إلى كتب المتكلمين والفلاسفة والصوفية، كما اقترح تخصيص معجم للتعريف بأعلام الفكر الفلسفي العربي، وذلك في شيء من التفصيل.
إنَّ الهدف من تحرير اللغة الفلسفية، يعد دافعًا قويًا لدى أهل اللغة والفكر على تطوير اللغة واستغلال آفاقها الرحبة من أجل وضع مناهج لغوية حديثة تسهم مستقبلا في تثبيت المصطلح الفلسفي، ومن ثم توظيفه في الحقول العلمية كافة، فلا شك أنَّ اللغة إذا استنامت للجمود قصرت عن مراقي الفكر، واستسلمت للتغرُّب والانحلال، وهذا ولا شك أيضًا خصم من رصيد الفلسفة الإنسانية التي يجب علينا أن نكمل ما بدأناه فيها من إسهام بجهد معاصر لا يتخلَّف عما قدمه أسلافنا، بشرط أن يكون “سامي العبقرية” عربي الصياغة حسب ما قاله الأستاذ فريد جبر عند وضعه أصول التحقيق الفلسفي باللسان العربي، ولن يتأتى ذلك بحسبه أيضا إلا بالعودة إلى “المحل الفكري الذي بدت فيه الذهنية السامية العربية خالصة صافية”.
لذلك فالواجب أن نكون خلف كل قوة دافعة نحو التحديث بشكل منهجي من أجل أن تتحقق للغتنا القدرة على المواكبة والاحتواء لكل ما هو جديد، بشرط ألا يكون ذلك آتيا من تغريب، ولا جانحا بفكرنا العربي عن أصله وأصالته.