في الثامن والعشرين من مارس هذا العام، خلصت دراسة حكومية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن هناك “أدلة واضحة” على أن الإشعاعات الصادرة عن الهواتف النقالة تسبب السرطان، فقد أصيب فئران هذه التجربة بسرطان القلب وهو مرض نادر جدًا بحيث لا يمكن تفسيره باعتباره صدفة.
عكف أحد عشر عالمًا مستقلًا ثلاثة أيام في مركز “ريسيرش تراينجل بارك” بولاية شمال كارولينا لمناقشة الدراسة التي أجراها البرنامج الوطني للسموم التابع لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية، وهي واحدة من أكبر الدراسات المعملية التي أجريت على الآثار الصحية لإشعاعات الهواتف النقالة، وقام خلالها علماء المركز الوطني للسموم بتعريض آلاف الجرذان والفئران -التي تحمل ما يكفي من التشابهات البيولوجية بينها وبين البشر لاستخدامها كمؤشرات مفيدة للمخاطر الصحية البشرية- لجرعات إشعاع تعادل متوسط ما يتعرض له مستخدمو الجوال.
التعتيم المريب
أثيرت بعض الشكوك حول محاولات قيادات “المركز الوطني للسموم” للتقليل من شأن تلك النتائج، فقد وجدت لجنة مراجعة الدراسة “بعض الأدلة” على إمكانية تسبب إشعاعات الهواتف في الإصابة بأورام الدماغ والغدد الكظرية أيضًا، إلا أنه جرى التعتيم على هذه النتائج الخطيرة للتجارب ولم يتم تناولها في أخبار وتقارير أي هيئات إعلامية رئيسية سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا.
تواكب ذلك مع حملات دعائية عالمية هائلة يمولها رواد الصناعة منذ ربع قرن وحتى الآن تهدف إلى تضليل ليس فقط الصحفيين، وإنما المستهلكين وصناع القرار أيضًا حول المعلومات العلمية الفعلية المتعلقة بتأثير إشعاعات الهاتف المحمول.
وسعيا لتكتم ما أسفرت عنه الدراسات من نتائج خطيرة، لجا مديرو الشبكات اللاسلكية الضخمة للاستعانة بالاستراتيجيات والتكتيكات نفسها التي استخدمتها شركات التبغ والنفط الكبرى لخداع الرأي العام بشأن مخاطر التدخين وتغير المناخ، حيث يزيفون الحقائق حتى بعد أن صرح العلماء التابعين لهم بشكل سري أن منتجاتهم قد تكون خطيرة، خاصة بالنسبة للأطفال.
التلاعب بنتائج الأبحاث
أشارت نتائج دراسة صادرة عن “مشروع بحوث التكنولوجيا اللاسلكية” يوم 7 أكتوبر 1999 إلى أن احتمالية الإصابة بأورام المخ والأعصاب النادرة الموجودة في الجزء الخارجي من الدماغ كانت أكثر من الضعف في مستخدمي الهاتف المحمول؛ وكشفت الدراسة عن وجود ارتباط واضح ما بين أورام المخ التي تحدث على الجانب الأيمن من الرأس واستخدام الهاتف على الجانب نفسه”.
بعد إعلان تلك النتائج شكك رئيس “جمعية الاتصالات الخلوية والإنترنت” في اليوم الذي يليه في صحة تلك المعلومات، مؤكدًا أن هناك دراسات أخرى أثبتت أن استخدام الهواتف النقالة آمن بالنسبة للجميع، إلا أن الدراسات التي أشار إليها غالبًا ما تكون ممولة بواسطة الشركات المستفيدة.
الإستراتيجية الرئيسية التي تستخدمها شركات الهواتف المحمولة في حملاتها الدعائية أن يظل هناك جدل دائر حول الموضوع دون حسمه، فهي لا تسعى بالضرورة لحسم الخلاف ولكنها تلعب على الافتقار الواضح إلى اليقين، وبالتالي تمول دراسات لدحض الدراسات المضادة لها، بهدف طمأنة العملاء وتلافي الخضوع للمساءلة الحكومية وصد الدعاوى القضائية التي قد تؤثر على الأرباح.
وتجدر الإشارة هنا إلى ما سبق أن كشفه أستاذ الهندسة الحيوية “هنري لاي” عقب قيامه بتحليل 326 دراسة متعلقة بالسلامة تم إنجازها ما بين عامي 1990 و 2006 ، واكتشف أن 44٪ منهم لم يعثروا على أي تأثير بيولوجي من إشعاعات الهاتف المحمول، بينما وجدت 56٪ منها تأثير.
ولكن عندما أعاد “لاي” تصنيف الدراسات وفقًا لمصادر تمويلها، ظهرت صورة مختلفة: حيث وجدت 67 ٪ من الدراسات الممولة بشكل مستقل تأثيرًا بيولوجيًا، في حين وجدت 28 ٪ فقط من الدراسات الممولة من الشركات اللاسلكية تأثيرًا سلبيًا أي أقل بمرتين ونصف من الدراسات المستقلة.
هل الهواتف آمنة؟
عدم وجود دليل قاطع على أن التكنولوجيا ضارة لا يعني أن التكنولوجيا آمنة، إلا أن صناعة الاتصالات اللاسلكية نجحت في بيع هذه المغالطة المنطقية للعالم. النتيجة هي أنه خلال الثلاثين سنة الماضية قرر مليارات الناس حول العالم استخدام هاتف نقال، ولم يبدوا اهتماما كبيرا باكتشاف إذا كان يسبب ضررًا وراثيًا أو سرطانًا لاحقا.
ومع كل محاولات التطمين، إلا أن شركات التأمين على سبيل المثال لا تغطي أضرار إشعاع الهاتف المحمول، رغم وجود نحو 20 دعوى قضائية معلقة ضد شركات الاتصالات اللاسلكية، بإجمالي مطالبات تعويضية بقيمة 1.9 مليار دولار.
ورغم أن منظمة الصحة العالمية سبق أن قامت بتصنيف إشعاع الهاتف المحمول كمسرطن بشري “محتمل” في عام 2011، إضافة إلى إصدار حكومات مثل المملكة المتحدة وفرنسا تحذيرات من استخدام الأطفال للهواتف المحمولة، إلا أن الحملات الترويجية نجحت في طمأنة المستهلكين بشكل كاف بحيث أن ثلاثة من أصل أربعة بالغين في جميع أنحاء العالم لديهم هواتف محمولة، مما يجعل الصناعة اللاسلكية واحدة من بين أكبر الصناعات في العالم.
هذه المادة مترجمة (بتصرف)