هل تذكر ذلك الصبي النزق الذي كان يجلس فوق مقعد دراجته الهوائية واضعُا فوق رأسه طاولة تحمل أرغفة الخبز، ثم يقود دراجته ويأتي أثناء سيره بالأعاجيب.
كان ذلك الصبي يقود وهو يغني، وتارة يشاكس هذا أو هذه، وتارة يترك مقود الدراجة ويصنع بذارعيه جناحين خرافيين كأنه يهم بالطيران، وتارة يحاور ويناور ويفلت من حوادث صدام أكيدة مع السيارات أو المارة، يفعل كل ذلك ولا يسقط من فوق رأسه رغيف واحد.
يصنع كل هذه الأعاجيب بسهولة الشهيق والزفير، تلك الراحة التي تكسو وجهه تجعل الناظر المتعجل يظن أعاجيبه سهلة ميسورة، بل يظن في نفسه القدرة على الإتيان بمثلها، فإن جرب ذلك المتعجل تلك القيادة حصل على كسر لذارعه أو فخذه.
من منطقة صبي الدراجة النزق، تكتب هناء نصير كتابها الأول: “بعد نهاية الأشياء”. ولكي تفسر الكاتبة لقارئها عنوانها فإنها تضيف إليه عنوانًا شارحًا يقول: “من أوراق فتاة ولدت متأخرًا”.
ولدت هناء نصير في العام 1979، تعلمت في مدارس الحكومة كغيرها ثم وقعت في غرام الإنجليزية فحصلت بجدارة على ليسانس الآداب الإنجليزية، ثم ترجمت بمهارة رواية عويصة “بيرة في نادي البلياردو” للكاتب المصري الذي يشبه اللغز “وجيه غالي”.
هوجمت هناء وهى دون الثلاثين هجومًا يليق بالمخضرمين من الكُتّاب والمترجمين. كان الهجوم عليها ليس لأنها أخطأت في ترجمة الرواية العويصة ولكن لأنها تجرأت وسبقت غيرها إلى ترجمتها.
في كتابها الذي بين أيدينا وهو من منشورات سلسلة “كتابة” التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، تكتب هناء عن ذاتها وبنات وأبناء جيلها ثم تعلو فتكتب عن نظرتها لمجتمعها.
كتاب هناء عصي على التصنيف، لو أردته قصصًا قصيرة لكان، ولو رأيته رواية في قالب جديد فلن تعدم الدليل، ولو طالعته بوصفه سيرة ذاتية فما أكثر الأدلة التي ستقع بين يديك، ولو تناولته بوصفه مقالات تعمل عمل النحلة تطوف بالحدائق والجنائن وتتخير الورود والأزهار التي تتوقف عندها فلن تقع في فخ المبالغة.
نحن أمام نصوص محكمة أو أوراق مترابطة تحكي عن الأحزان والمسرات. حزن الكاتبة الرئيس هو أنها ولدت بعد نهاية الأشياء، ولدت بعد أن تم الكون ورسخ البناء ولم يعد هناك من جديد يدهش أو طارئ يأخذ بالألباب.
سيطر الأدب على حبة قلب الكاتبة، فهى تندب حظها لأنها ولدت بعد ثورة يوليو وتأميم القناة وبناء السد العالي وصدام ناصر مع الشيوعيين، ثم موت ناصر ثم مجيء السادات ثم حرب رمضان ثم سلام مع العدو. لقد انتهى العالم وتم البناء، فكيف ستستهلك الكاتبة الباقي من عمرها في ملل الرسوخ هذا؟.
تلجأ إلى كتابة أحلامها الحقيقية التي هى النواة الصلبة لذاتها، هى تعود بزمانها إلى الستينيات، تصرح أكثر من مرة بأنها حاطبة في هوى تلك الفترة، كانت ستشاهد أم كلثوم وعبد الحليم وتتفاعل مع ناصر، كانت ستعارضه لأنها كانت ستعمل بالسياسة، مناضلة شيوعية لأم مسلمة متطهرة وأب مريض بداء العدل والمناقشات.
هناء الستينية كانت ستحب عبد الناصر حتى ولو ألقى بها في قاع زنزانة، هي لا تستطيع إنكار إنجازاته.
بعد عدة أوراق سترى الكاتبة أن ريح الستينات ثقيلة، فلتولد إذًا في العصر الفكتوري، عصر ملكة الإنجليز فكتوريا، ولتكن ابنه جنتلمان تنفق من سعة، ولتكتب مثل فرجينيا وولف، ولكن كيف تتخلى عن مصريتها؟
ثم لو تخلت عن مصريتها فكيف ستتخلى عن حجابها وعن إسلامها.
لماذا لا تناطح بحجابها وإسلامها كتابات فرجينيا وولف؟.
تنهض الكاتبة من سرير أحلامها الوردية المستحيلة فتذهب في عمل واقعي إلى المجلة الثقافية الأعرق، تعرض دراسة على رئيس تحريرها، يعجب رئيس التحرير بدراستها ثم يطالبها بنزع حجابها!
هناء لا تعرف تلك العفاريت التي تركب أدمغة بعضهم عندما يرون كاتبة أو فنانة محجبة، وكان حقًا عليها معرفتهم، خاصة وهي تعرض أوراقها على جماعة من أصحابها فتسمعهم يقولون لها: اكتبي غير خائفة من شيء، كتابتك ينقصها شيء!
كان عليها أن تعلم أنهم يريدون التحرش بخصوصياتها، يريدون بوحها لكي يتفرجون عليها وهى تتعرى. هناء ذات الجذور الدلتاوية بريئة أكثر مما يجب، ومع تلك البراءة فقد أفلتت من فخاخهم.
هناء التي تعرف العربية والإنجليزية عن دراسة ومحبة لا تجد، بحجابها وصلاتها، مكانًا في جريدة أو مجلة، تعمل بالترجمة “من منازلهم” أو تعمل في هيئة التليفونات العمومية لسنتين، لكنها لا تعمل في بنك أو مؤسسة ثقافية، هي تقول: “لست حِرّكة بما يكفي للعمل”.
ليس في جملتها جلد ذات أو ندم، بل في جملتها قراءة واعية لمتطلبات العمل في أيامنا هذه. الكاتبة ذات النظارات الطبية والحجاب والصلاة الدائمة تشكو إلى الله شرودها في صلاتها، ثم تصالح نفسها كأنها تخاطبه عز وجل: “لقد خلقتني هكذا”.
تهرب من ولادتها المتأخرة حيث كل شيء قد تم لاجئة إلى النيل، هى لا تحب شيئًا حبها للنيل، تقسم بأنها يومًا ما ستلد بنتًا وسيكون اسمها “نيل” ثم تخاف من عبث المصريين الذين سيضيفون التاء المربوطة ويلحقونها باللام فيصبح اسم البنت “نيلة”.
في رحلة نيلية مع صديقات، عبر الموكب ترعة تكاد أن تكون جافة ظهر طينها اللزج، فقالت صديقة مشيرة إلى الطين: “هذه بنت هناء”!.
تمضي الأوراق ممتعة لا يعيبها سوى أخطاء المطبعة ـ وتلك مسئولية الناشر لا الكاتب ـ حتى تعود هناء إلى واقعها فتحمد ربها على ولادتها المتأخرة، فلو ولدت كما كانت تشتهي في عصر الفرسان الكبار كيف كان قلبها سيتحمل بذاءة المشهد وعبث الصغار؟.
حقًا لو عرفتم الغيب لرضيتم بالواقع.
منبهرة جدا لدرجة الاعجاب والدهشة بما قرأت …
وسعيدة لأنى يوما ما وصفت هناء بأنها طيبة جدا كالأرض ِِ ولعلها تذكر ذلك ِِ ولم أكن قد قرأت لها شئ ولم تخبرنى بأى حرف مما كتب هنا …. هناء جميلة طيبة تبدو بطبيعتها لمن يراها ِِ واضحة جدا فيسهل معرفتها وتقع فى قلبه محبتها…
يا إيمي مش عارفة أرد بأيه على كلامك الرقيق الرائع دا غير أنك بس صاحبة قلب صافي من دهب ?