“قل لي ما هو موقفك من إسرائيل، أقل لك من أنت”، هكذا كان الكاتب الصحفي عبد العال الباقوري يزن الناس، فالعداء للكيان الصهيوني هو الميزان الحساس الذي كان يحدد به الباقوري أقدارهم .
أفنى الأستاذ الكبير عبد العال الباقوري الذي رحل عن عالمنا أول من أمس، عمره في الدفاع عن القضية الفلسطينية والعروبة، فقد كان رحمه الله سفيرا للشعب الفلسطيني في القاهرة، وسفيرا لمصر لدى الشعب العربي، على حد تعبير صديقه الدكتور إيمان يحيى.
قبل رحلة مرضه الأخيرة نشر الباقوري مقالا بـ”الجمهورية” في 5 يوليو الماضي تحت عنوان “رد عربي على صفقة القرن”، توقع فيه فشل “تلك الصفقة المثيرة للريبة والشك والتي لا يعرف أحد شيئاُ عن معالمها وتفاصيلها”، داعيا الأطراف العربية إلى نفض يديها من كل المشروعات والخطوات والحديث المكرر المعاد عن صفقات يجري اللهاث وراءها دون الوصول إلي نتيجة حاسمة في وقت محدد.
وتساءل الباقوري: هل يمكن التلاقي علي جدول عربي محدد؟، بعد المقال بأسابيع قليلة أعلنت الأطراف العربية ذات الصلة فشل “الصفقة”، فالعاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين رفضها صراحة، ومصر أعلنت على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي أن صفقة القرن “ليست سوى تعبير إعلامي”، بعدها بساعات أعلنت العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز أن الرياض لن تقبل بأي خطة سلام لا تعالج وضع القدس وحق اللاجئين في العودة، ما يعني عمليا فشل الصفقة كما توقع لها الباقوري الصحفي والباحث المتخصص في شئون الصراع العربي الإسرائيلي، وهو على فراش مرضه الأخير.
لم يكتف الباقوري “1942-2018” بالدفاع عن الحقوق الفلسطينية المغتصبة، بل عمل عبر مئات المقالات والدراسات على إجهاض محاولات المطبعين العرب لتزييف وعي الشارع العربي وإقناعه بقبول الدولة الصهيونية وتبادل العلاقات الثقافية والاقتصادية مع مواطنيها ومؤسساتها.
الحاخام والمطبعاتي
كتب صاحبنا مقالا في “الجمهورية” نهاية يناير الماضي، تحت عنوان “الحاخام.. والمطبعاتي”، رحب فيه بموقف الحاخام اليهودي هيرهيرش زعيم حركة “ناطوري كارتا” غير الصهيونية، الذي هاجم فيه الصهيونية خلال مؤتمر الأزهر العالمي لنصرة القدس، مطلع العام الجاري، ونقل تعبيره “ليس للصهاينة الذين يحتلون أرض فلسطين حقوق سيادة ولو علي ذرة تراب من كل أرض فلسطين”.
في المقابل انتقد الباقوري “المطبعين العرب” الذين يعرفون ما قاله الحاخام اليهودي حق المعرفة، لكنهم يأبون إلا أن يذهبوا إلي هؤلاء المحتلين وإقامة العلاقات معهم سراً وعلانية.
لم تختلف مواقف الباقوري من الصهاينة، سواء انتمى هؤلاء إلى اليمين أو إلى اليسار، وحذر مبكرا من تمدد “سرطان التطبيع” بين أروقة المثقفين والساسة العرب عبر لافتات “أصدقاء السلام من اليسار الإسرائيلي” وانتقد دفاع بعض المنتسبين إلى اليسار المصري عن حركات يسارية إسرائيلية كان يرى إنها لا تختلف عن أحزاب اليمين، فكلاهما يؤمن بنفس الفكر الاستيطاني ويدافع عن الدولة العبرية.
موقعة أميتاي
حكي الباقوري في مقال كتبه عام 2007 في جريدة العربي عن محاولة الكاتب والأكاديمي اليساري الإسرائيلي “يوسي أميتاي” التسلل إلى جريدة “الأهالي” لسان حال حزب التجمع اليساري المصري، قال: ﺣﯾن ﻛﻧت رﺋﯾﺳﺎ ﻟﺗﺣرﯾر اﻷهالي ﺗﻠﻘﯾت ﻣن اﻣﯾﺗﺎي هذا، ﻋن طرﯾق أﺣد اﻟﻣﺣررﯾن، ﻣﻘﺎﻻ ﻗرأته ﺑدﻗﺔ وإﻣﻌﺎن وﺗرددت ﻛﺛﯾرا ﻓﻲ ﻧﺷره، وﻛﺎن ھو ﯾﻠﺢ ﻋﻠﻰ اﻟزﻣﯾل اﻟذي أرﺳل اﻟﻣﻘﺎل ﻋن طرﯾﻘﮫ ﻓﻲ ﻧﺷره، وأﻋدت ﻗراءﺗﮫ ﻣرة واﺛﻧﺗﯾن، وأرﺳﻠﺗﮫ إﻟﻰ ﻗﺳم اﻟﺻف ﻓﻲ اﻟﺻﺣﯾﻔﺔ، ﺑﻌد أن ﻛﺗﺑت ﺗﻌﻠﯾﻘﺎ ﻣطوﻻً ﻋﻠﯾﮫ .وﻋرﺿت اﻷﻣر ﻋﻠﻰ ﻣﺟﻠس اﻟﺗﺣرﯾر اﻟذي ﻋﺎرﺿﻧﻲ ﻓﯾﻣﺎ ذھﺑت إﻟﯾﮫ، ورﻓض اﻟﻧﺷر، فلم أﻣﻠك إﻻ اﻟﻧزول ﻋﻧد إرادة ﻣﺟﻠس اﻟﺗﺣرﯾر، ﺧﺎﺻﺔ وأﻧﻧﻲ أﻗف ﺑﻘوة وﺣﺳم ﺿد أي ﻣظﮭر ﯾﻣﻛن أن ﯾؤﺧذ ﻋﻠﻰ أﻧﮫ ﺗطﺑﯾﻊ ﻣﻊ أي إﺳراﺋﯾﻠﻲ أو ﺻﮭﯾوﻧﻲ وھﻧﺎ، ﻓﺈن اﻟﯾﺳﺎر اﻟﺻﮭﯾوﻧﻲ ﻻ ﯾﻘل ﺧطرا ﻋن اﻟﯾﻣﯾن، ﺑل إﻧﮫ ﯾﻔوﻗﮫ وﯾﺗﻔوق ﻋﻠﯾﮫ”.
وفي كتابه “وعد بوش .. بلفور جديد.. الحصاد المر للساداتية”، الصادر عن مكتبة مدبولي عام 2005، اعتبر الباقوري أن وعد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن لإسرائيل الذي أعلنه في 2004، بإعطائها جزءا جديدا من أرض فلسطين لا تنسحب منه بعد أن احتلته عام 1967، أكثر خطورة من الدور الذي لعبته بريطانيا حين صدر عنها وعد بلفور الشهير عام 1917.
وأشار الباقوري إلى أن وعد بوش المشار إليه، هو نتاج سياسات الرئيس الراحل أنور السادات الذي عقد مع اسرائيل اتفاقيات سلام منفردة في أعقاب زيارته للقدس عام 1977. وفي عام 1999 صدر له كتاب “الحرب المقبلة.. نتنياهو أخطر رجل فى أخطر دولة وثائق وأحاديث إسرائيلية”، وفي ذات العام صدر له كتاب “سقوط القدس
وصدر له عام 2002 كتاب “حدود التسوية واستراتيجية إسرائيل فى القرن الـ21”
وفي عام 2017 صدر للباقوري كتاب “فلسطين والمستقبل العربي”، ضمن سلسلة كتاب الجمهورية، فند فيه الأكاذيب التي تم تلفيقها حول القضية الفلسطينية، وإيضاح الدور الذي لعبته مصر في الصراع العربي الإسرائيلي.
من الخارجية للصحافة
انتقل الباقوري من قريته باقور مركز أبو تيج محافظة أسيوط، إلى القاهرة ليلتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1965، تخرج منها بتقدير جيد جدا، واختير للعمل في وزارة الخارجية، وأجرى اختبارا ليلتحق بالسلك الدبلوماسي، إلا انه تم استبعاده بعد أن صنفته التقارير الأمنية كشيوعي، وألحق بالسلك الإداري في الوزارة، وفقا لصديقه الأستاذ محمد أبو الحديد رئيس مجلس إدارة دار التحرير الأسبق.
ويقول أبو الحديد، أنه بعد رحيل الباقوري من الخارجية عمل في نشرة أسبوعية تصدر عن أمانة الدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي، وبعدها التحق بقسم الأبحاث بجريدة الجمهورية، ثم عمل بقسم التعليقات السياسية بـ”الجمهورية”، وفي النصف الثاني من السبعينيات ومع تصاعد المعارضة لسياسات الرئيس الراحل أنور السادات بدأ التضييق على الباقوري، فرحل إلى جريدة “الاتحاد” الإمارتية واستمر فيها حتى مطلع التسعينيات، ثم تولى رئاسة تحرير جريدة “الأهالي” عام 1994 وحتى 1999.
وخلال رحلة عمله في بلاط صاحبة الجلالة، أسهم الباقوري بكتاباته وتحليلاته في عدد من الإصدارات المصرية والعربية، منها “الطليعة” و”السياسة الدولية” عن مؤسسة “الأهرام”، و”الكاتب” عن “دار التحرير”، و”شئون فلسطينية” عن مركز الدراسات الفلسطينية وجريدة “العربي” عن الحزب الناصري.
وكيل “الصحفيين“
كان الباقوري أحد حراس قرار الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين بعدم التطبيع الشخصي والمهني والنقابي مع الكيان الصهيوني، على حد تعبير نقيب الصحفيين السابق يحيى قلاش، الذي رصد تمتع الباقوري بحس تاريخي في رؤيته السياسية، واعتزازه بعضويته في الجمعية التاريخية المصرية، فضلا عن مشاركته الفعالة في الزود عن حرية الصحافة والصحفيين التي تصدى لها بشراسة خلال عضويته بمجلس النقابة 1999 – 2003، ونضاله لإسقاط مشروع القانون اللقيط 93 لسنة 1995، مع زملائه في الجمعية العمومية للصحفيين.
كان الباقوري من أول الأصوات المطالبة بعقد عمل موحد للصحفيين تكون النقابة طرفا ثالثا فيه، وكثيرا ما كان يتدخل لحل مشاكل علاقات العمل منتصرا لزملائه من أصحاب مهنة القلم.
وبعد شهور من إصابته بالفشل الكلوي، رحل الباقوري عن عالمنا نهار الأثنين 7 أغسطس عام 2018، ليشيع إلى مثواه الأخير في مسقط رأسه في محافظة أسيوط.