رغم حجمها القصير للغاية، لا يتجاوز عشر صفحات على أكثر تقدير، تبقى قصة “الرهان” للروائي والقصاص والمسرحي الروسي أنطوان تشيخوف واحدة من أهم أعماله القصصية.
ورغم كونها تعود إلى ثمانينات القرن التاسع عشر، تحديداً عام 1889 حين نشرت لأول مرة باللغة الروسية، إلا أنها لاتزال تلهم مبدعين عديدين من جنسيات مختلفة حتى يومنا هذا.
تبدو القصة للوهلة الأولى وكأنها تناقش قضية كانت تشغل الرأي العام الأوروبي في ذلك الوقت، هي: أيهما أكثر أدمية، العقاب بالسجن المؤبد أم الإعدام؟
يُطرح هذا السؤال في أمسية يستضيفها ثري مغرم بالرهان، يمثل وجهة النظر القائلة إن الإعدام هو الأكثر أدمية لأنه ينهي عذاب المتهم في التو واللحظة.
إلا أن محامياً شاباً يرى غير ذلك ويجادل الثري أن السجن وإن طال فهو أكثر أدمية لأنه يحفظ حياة السجين.
تٌفضي المناقشة إلى رهان بين الاثنين، لم يسمهما تشيخوف على الإطلاق، يتعهد فيه المحامي بأن يحتمل السجن خمسة عشر عاماً، وفي المقابل يراهن الثري بمبلغ ضخم على أن المحامي لن يحتمل السجن وسيغادر محبسه أو يفر منه قبل انتهاء تلك المدة.
المتتبع لتطور الأحداث يدرك أن تشيخوف غير معني بإيجاد إجابة على السؤال موضوع الرهان، بدليل أن نهاية القصة لم تحمل أي إجابة محددة، فالكاتب يطرح من خلال بطليه قضية أخرى هي المعرفة، التي من شأنها أن تحرر المرء وإن كان حبيس السجون.
فالمحامى يطالب الثري الذي أعد له سجناً خاصاً –إن صح التعبير- في قصره، بتزويده بالكتب بشكل مستمر، وعلى مدار الخمسة عشر عاماً تتنوع قراءات المحامي ما بين الروايات واللغات والفلسفة وأخيراً الأديان.
يستعيد السجين حريته شيئاً فشيئاً من خلال الكتب التي منحته ثقافة موسوعية، في حين يفقد الثري حريته رويداً رويداً بسبب خساراته المالية المستمرة.
مع نهاية القصة، لا يملك القارئ إلا أن يسأل نفسه: أيهما ربح الرهان؟ أيهما الحر وأيهما السجين حقاً؟
تم تناول هذه القصة مرات عدة في عالمنا العربي، على الشاشة الصغيرة وعبر موجات الأثير، وقد قدمتها الإذاعة المصرية ضمن برنامج خاص أعده عبد الحميد الكاشف وأخرجه حسين أبو المكارم وقام ببطولته المخضرمين أشرف عبد الغفور وعادل المهيلمي.
التزم البرنامج إلى حد كبير بروح النص الأصلي إلا أنه أضاف شخصيات نسائية لم تكن موجودة في قصة تشيخوف، فجعل للمحامي خطيبة تنتظره وللثري زوجه توبخه.
وكما في القصة، يتابع المستمع التطور التدريجي لشخصية المحامي من شخص طموح طامع في ثروة طائلة وإن كلفته حريته إلى شخص ناضج حكيم بفضل قراءاته مستعد للتضحية بالثروة في سبيل الخلاص الروحي.
كما قدم العمل نفسه المخرج أحمد صلاح الدين للتلفزيون المصري في الثمانينات في سهرة درامية تقاسم بطولتها كل من يحيى الفخراني وعبد الرحمن أبو زهرة.
لم يتقيد صناع السهرة بالقصة بشكل حرفي وأعطوا لأنفسهم مجالاً واسعاً في تغيير الأحداث والشخصيات، خاصة مع طول العمل الذي يتجاوز الساعة ونصف الساعة.
هنا أيضاً تم الدفع بشخصيات نسائية غير موجودة في النص الأصلي مثل زوجة المحامي وزوجة الثري، إضافة إلى شخصية السجان الذي يطور علاقة إنسانية دافئة مع المحامى على مدار خمس عشرة عاماً.
كما تم استبدال الترجمة العربية الفصحى بحوار بالعامية المصرية وإعطاء الشخصيات أسماء بعينها في محاولة لأنسنتها وتقريبها من المشاهد العربي.
وكما في قصة تشيخوف، ينتهي العمل وقد بات كلا البطلين شخصاً مختلفاً تماماً، فالمحامي صار غير عابئ بالرهان والثري صار أقرب إلى المجرمين الذين كان ينتقدهم.
وفي بلد عربي أخر هو سوريا، تلقف الفنان السوري ياسر العظمة هذه القصة وأعاد صياغتها من خلال مسلسله الكوميدي “مرايا”، فجعل من أبطال تشيخوف عرباً من سوريا، كما غير زمن الأحداث إلى أواخر القرن العشرين.
رغم هذه التغييرات إلا أن العظمة ظل وفياً لرسالة تشيخوف التي سعى إلى تضمينها قصته، قيمة المعرفة التي لا يمكن لثري أن يشتريها ولا لسجن أن يحتويها.