رؤى

“طوفان الأقصى”.. معركة الجنوب الجديدة

في كتابه “الوارثون” وهو القسم الثاني من سلسلة سيرته الذاتية بعد “الوسية” يروي الخبير الاقتصادي المصري الراحل الدكتور خليل حسن خليل، عن تجربته مع العنصرية التي صادفها لدى دراسته لنيل درجة الدكتوراه في انجلترا في الخمسينات من القرن الماضي.

يصطدم الطالب المصري المذكور، بلافتات على واجهات بيوت الطبقة الوسطى في لندن -خلال سعيه لإيجاد مسكن له- مكتوب عليها “لا نقبل الملونين” وسرعان ما يدرك أن أصحاب هذه البيوت من البيض، يعتبرون أن كُلَّ وافدٍ من بلاد الجنوب “آسيا – أفريقيا – أمريكا الجنوبية” ملونا ودونهم شأنا، وبالتالي يرفضون أن يقاسمهم منزلهم؛ حتى وإن كان مستأجرا.

يلجأ خليل إلى صديقه الإيرلندي الذي عانى مثله تماما -رغم كونه أبيض- من العنصرية الإنجليزية لمحاولة فهم هذه الاستعلاء غير المبرر من وجهة نظره.

الوارثون خليل حسن خليل

فسر له صديقه الإيرلندي الأمر تفسيرا لافتا.. هو أن فكرة “السمو العنصري” هذه؛ نشأت من علاقات اقتصادية واجتماعية، ففي المجتمعات الطبقية تملك طبقة بعينها الثروة والسلطة، في حين لا تملك الطبقات الأخرى سوى العمل، لدى هذه الطبقة بالأجر الذي تحدده لها هذه الأخيرة.

وسرعان ما انتقلت هذه العلاقة إلى المجال الدولي، فدول الشمال “أميركا الشمالية – أوروبا” استعمرت دول من تسميهم اللافتات بـ “الملونين” ونهبت مواردها الطبيعية، ولتبرير هذا النهب الاستعماري، كان لا بد من تبرير أخلاقي ما؛ فتفتق ذهن الساسة في عالم الشمال عن فكرة، مفادها أنهم أرقى بسبب لونهم، وبالتالي فإن كل ما يفعلونه بـ”الشعوب الملونة” مبرر تماما.

بعد أكثر من سبعين عاما على رحلة الدكتور خليل، لا يزال التفسير الذي طرحه الشاب الإيرلندي صالحا لفهم ما يجري على أرض قطاع غزة اليوم.

يخطئ -في رأيي- من يعتبر أن هذه المعركة هي معركة تخص الشعب الفلسطيني وحده.. فإن كانت كذلك، فكيف نفسر هـذا الاصطفاف من مستعمري الأمس خلف مستعمر اليوم وهو يمارس إبادة شبيهة بما ارتكبوه بالأمس بحق شعوب الأمريكتين وأستراليا وأفريقيا؟

اسرائيل وغزة

الحق أن المعركة الدائرة رحاها منذ عشرة أشهر أو أكثر، لم تعد محدودة بحدود القطاع المحاصر، أو حتى بحدود فلسطين المحتلة، وإنما هي في جوهرها معركة كل من أسمتهم اللافتات المشار إليها أعلاه بـ “الملونين” ومن أسماهم الخطاب القرآني بـ”المستضعفين”.

إن كل قذيفة أو رصاصة يطلقها المقاومون في غزة؛ هي رفض لمنطق يعتبر فئة من البشر أرقى من أخرى، ويمنح قاتلا تفويضا مطلقا لإبادة تلك الفئة، التي يعتبرها أدنى؛ بل ويصفق له مباركا جرائمه وداعيا إياه إلى مواصلتها.

ولعل هذا الإدراك لجوهر المعركة هو ما دفع بالملايين من المستضعفين إلى الشوارع تضامنا مع غزة ورفضا ليس للعدوان الصهيوني فحسب؛ بل للمنطق الذي يقف خلفه.

وهو ما دفع بطلاب الجامعات في أميركا الشمالية وأوروبا وأستراليا إلى التظاهر والاعتصام؛ نصرة لشعب فلسطين، وهو ما دفع شعب جنوب أفريقيا الذي عانى من المنطق المذكور أعلاه لسنوات طوال- لمقاضاة القتلة في ساحات المحاكم الدولية، وهو ما دفع حكومات أميركا الجنوبية ذات التوجه اليساري لقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني.

لقد أدركت كافة هذه الفئات -على اختلافها- ما أدركه الدكتور خليل في كتابه، بعد اصطدامه بالعنصرية في عاصمة الإمبراطورية، التي احتلت بلاده لسنوات طوال، ونهبت القطن الذي يرويه الفلاح المصري بعرقه وكَدِّهِ؛ لتدير به آلات مصانعها في لانكشاير وغيرها، من قلاع صناعة النسيج، وهو أن اجتثاث هذا الإرث الاستعماري العنصري يكون بانتفاضة شعوبية تتضامن فيها كافة الأجناس المسماة بـ”الملونة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock