رؤى

من غسان كنفاني إلى السنوار.. في مديح من اختاروا النِّدْيَّة!

“لا تَمُتْ قبل أن تكون نِدًا” بهذه الكلمات التي ضمّنها مجموعته القصصية “أرض البرتقال الحزين” لخّص الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، فلسفته الحياتية في مواجهة العدو المحتل لأرض بلاده، والتي جسّدها بأفعاله منذ مولده عام ١٩٣٧، وحتى استشهاده في عملية اغتيال صهيونية غادرة في بيروت عام ١٩٧٢.

أغلب الظن، أن كنفاني لو كان بحث عن بطل يجسد فلسفته، التي ضمّنها أعماله الأدبية، والتي تختزلها المقولة السابقة، لما وجد خيرًا من القائد القسامي السنوار الذي مضى إلى لقاء ربه شهيدا في ١٧ أكتوبر ٢٠٢٤، في أوج معركة “طوفان الأقصى” التي كان أحد أبرز قادتها ومهندسيها.

على مدار مسيرة نضالية -تجاوزت الثلاثين عاما- لم يقبل السنوار بأقل من أن يكون نِدا لعدوه وجلاده، بداية من الانتفاضة الأولى في الثمانينات، التي أدين خلالها أمام محكمة صهيونية، بسبب إعدامه لعدد من عملاء الاحتلال.

أتاحت تجربة السجن للسنوار الاطلاع على عقلية العدو وتاريخه، من خلال اتقانه للغة العبرية ومواظبته على قراءة كل ما يتعلق بالوضع الداخلي الصهيوني، فكتب عدة دراسات وأبحاث تناولت هذا الوضع إلى جانب رواية أدبية بعنوان “الشوك والقرنفل”.

ويبدو أن توق شعب فلسطين إلى الحرية؛ انعكس في سلوك السنوار الذي سعى للهرب من سجنه أكثر من مرة، وعوقب بسبب ذلك من قبل سلطات الاحتلال.

ثم كان خروج السنوار من سجنه في صفقة تبادل أسرى بين المقاومة والاحتلال عام ٢٠١١، لتبدأ مرحلة جديدة من مقارعته للعدو، الذي بات مُطّلِعا على عقلية وكيفية تفكير قادته.

قاد السنوار المقاومة في قطاع غزة على مدار سنوات، وأنهى وجوده في منصب قيادي ما كان من فجوة بين قيادة المقاومة السياسية والعسكرية، إذ بدا وكأن كلا الجناحين التحما في شخصه.

وزاد هذا الالتحام مع انطلاق معركة طوفان الاقصى في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، حيث اعتبر الاحتلال أن السنوار هو العقل المدبر لتلك العملية المركبة، والتي لم يواجه الاحتلال مثيلا لها منذ حرب أكتوبر عام ١٩٧٣.

وجاء اغتيال العدو للقيادي إسماعيل هنية ليدفع بالسنوار إلى الواجهة، حين اختير خلفا لهنية؛ ليجتمع جناحي المقاومة: السياسي والعسكري لأول مرة في قيادة جامعة.

وعلى مدار عام كامل، رسم الإعلام الصهيوني صورة للسنوار بوصفه شخصا يختبئ في أنفاق المقاومة، في قطاع غزة، ويتخذ من الأسرى الصهاينة دروعا بشرية يحتمي بها.

لكن السنوار.. الذي ذكر في حوار تلفزيوني أنه يبغض البدلة وربطة العنق، وأنه يرتديها مضطرا نزولا على رغبة رفاقه في المقاومة أبى إلا أن يُكَذِّبَ رواية العدو.

فأتت معركته الأخيرة، والتي خاضها مع جيش الاحتلال في منطقة رفح، لتكشف عن صورة أيقونية مخالفة لكل ما ادعاه العدو.

صورة لقائد لا يختبئ ولا يحتمي في نفق، وإنما يقاسم مقاتليه كسرة الخبز وشربة الماء، ويقبض على سلاحه؛ حتى الرمق الأخير، ويأبى أن يموت حتى “يكون نِدًا”.

جاءت صورة السنوار -وهو في كامل الزي العسكري- لتعيد الى أذهان الأمة نماذج مماثلة؛ ظن البعض أنها انتهت للقائد الذي لا يقبل بأقل من أن يقضي في الميدان: الشهيد يوسف العظمة في سوريا والشهيد عبد المنعم رياض في مصر.

لعل كاتب هذه السطور لا يبالغ حين يقول إن صورة السنوار أحرجت العدو من ناحية، وأحرجت القيادة التي نُصِّبَتْ لسنوات متحدثة باسم الشعب الفلسطيني.

تلك القيادة التي ألقت السلاح واستبدلته به حقيبة أوراق واستبدلت بالميدان طاولة المفاوضات، وأخذت شعبها إلى صحراء تيه جديدة، منذ اتفاقيات أوسلو وحتى اليوم.

ولعلي لا أبالغ أيضا إن قلت أن جُند المقاومة -التي قادها السنوار- لسنوات سيستمدون الإلهام من قائدهم الشهيد الذي قضى٬ بتعبير أدبيات اللغة العربية “مُقبِلا غير مُدبِر” وسيسيرون على دربه لا يقبلون بأقل من أن يكونوا أندادا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock