في رحلتنا مع مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”، نُعيد التأكيد على أن الشاهد هو “من يأتي بالشهادة المعرفية بما لديه من خبرة”، بالشيء أو الحدث؛ في حين أن الشهيد هو “من يأتي بالشهادة الحضورية بما اكتسبه من المُشاهدة”، للشيء أو الحدث. ومن هنا، نُدرك، أن شهادة الشهيد أقوى من شهادة الشاهد؛ من حيث إن الأخير يعتمد على “الخبرة المعرفية”، في حين يستند الأول إلى “المُشاهدة العينية”.
ومن هنا، وإذا كان الشاهد والشهيد، كل منهما اسم مفرد؛ وإن كانا يختلفان في الاشتقاق، إلا أنهما من أصل لساني واحد، هو فعل “شهد”. ومن منظور فعل القيام بـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”، يتضح أن مصطلح “شهداء”، كما وصلنا إليه في الحديث السابق، يرد للدلالة على من تكون شهادتهم “شهادة حضورية”.
وتتأكد دلالة مصطلح “شُهَدَآءَ”، عبر قوله سبحانه وتعالى: “أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ” [البقرة: 133].
ولنا أن نُلاحظ، هنا، أن هذا إقرار من أبناء نبي الله يعقوب عليه السلام، بأنهم وآباءهم “مُسۡلِمُونَ”؛ كما لنا أن نُلاحظ أيضا، كيف ورد اسم نبي الله إبراهيم عليه السلام، دون تثبيت حرف “الياء” أي بالرسم القرءاني “إِبۡرَٰهِـۧمَ”، وأن الاسم يأتي هكذا في سورة البقرة فقط، أما في باقي سور القرءان الكريم؛ فيأتي مع تثبيت حرف “الياء”، أي “إِبۡرَٰهِيمَ”؛ كما في قوله سبحانه: “إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ” [آل عمران: 33].. إلا أنه في كل الحالات، يأتي الاسم دون تثبيت حرف الألف (وهذا، الرسم القرءاني الخاص بنبي الله إبراهيم.. له بحث خاص به).
ليست هذه الملاحظات هي الوحيدة، التي يمكن ملاحظتها في الآية الكريمة؛ ولكن هناك كذلك، ملاحظة خاصة بمصطلح “ءَابَآئِكَ”، وهو جمع “أب”، رغم أن الآباء الذين جاء ذكرهم في الآية ليسوا جميعًا آباء يعقوب عليه السلام؛ فالآباء الثلاثة الذين ذكرتهم الآية هم: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وفي حين إن إسحاق هو “الوالد” ليعقوب، فإن إبراهيم هو الجد، وإسماعيل هو العم؛ بما يؤكد أن مصطلح “الأب ” في التنزيل الحكيم، يشمل الوالد والعم والجد.
ثم، نأتي لدلالة مصطلح “شُهَدَآءَ”، حيث يأتي التساؤل القرءاني في الآية للتأكيد على دلالة المصطلح، الدلالة التي تؤشر إلى من تكون شهادتهم “شهادة حضورية”.
هذه الدلالة نفسها تتأكد من جديد من خلال قوله تعالى: “إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ” [آل عمران: 140].
وهنا، وفي ما يخص الحديث حول دلالة مصطلح “شُهَدَآءَ”، يتبدى بوضوح كيف يؤشر السياق القرءاني في الآية إلى “علو” منزلة الـ”شُهَدَآءَ”؛ إذ يدل على ذلك التعبير القرءاني “وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ”، حيث “يَتَّخِذَ” قرءانيًا تُؤشر إلى الاصطفاء والاختيار المتفرد.. تماما، كما في قوله سبحانه: “وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا” [النساء: 125]؛ ولنا أن نتأمل دلالات “ٱتَّخَذَ”، عبر التعبير القرءاني بخصوص نبي الله إبراهيم “وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا”.
كذلك، في قوله عزَّ وجل: “إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ…” [المائدة: 44]؛ يتأكد أيضا أن مصطلح “شُهَدَآءَ”، يرد للدلالة على من تكون شهادتهم “شهادة حضورية”.
بيد أننا هنا، نود أن نُشير إلى نقطة مهمة؛ تلك التي يُشير إليها التعبير القرءاني في الآية، نعني “ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ”.. وهو التعبير الذي يؤكد على “إسلام النبيين”، من حيث إن إسلام هؤلاء النبيين هو الإسلام بمعناه الكامل، أي الانصياع لأوامر الله سبحانه وتعالى. ثم إضافة إلى ذلك، يأتي التعبير القرءاني “بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ”؛ حيث قال تبارك وتعالى “ٱسۡتُحۡفِظُواْ”، ولم يقل “حفظوا”.. إذ، يأتي التعبير الأخير للدلالة على “الحفظ من الضياع أو التلف”؛ في حين يأتي التعبير الأول “ٱسۡتُحۡفِظُواْ”، للإشارة إلى “الائتمان على الشيء”، أي ائتمانهم على “كِتَٰبِ ٱللَّهِ”. ولذلك، ورد التعبير “وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ” للدلالة على شهادتهم “شهادة حضورية” في الائتمان على “كِتَٰبِ ٱللَّهِ”.
ولأن “ٱسۡتُحۡفِظُواْ” هو أمر تكليفي لهم “لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ”؛ ولأن الأمر التكليفي عُرضة لأن يُطاع، وعُرضة لأن يُعصى؛ ولأنهم لم يحافظوا على هذا الأمر التكليفي، فقد “نسوا”.. كما ورد في الحديث القرءاني عن “بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ”، في سورة المائدة، في قوله عزَّ من قائل: “فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦۚ…” [المائدة: 13].. لذلك، لم يدع المولى تبارك وتعالى أمر حفظ القرءان للبشر؛ ولكنه تعالى تكفّل بحفظه، كما ورد التأكيد على ذلك في قوله سبحانه: “إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ” [الحجر: 9].
وفي السياق القرءاني ذاته، يأتي الحديث عن “أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ”؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: “قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ ٭ قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ” [آل عمران: 98-99].
وعبر الآييتين الكريمتين، لنا أن نُلاحظ التناغم القرءاني بين “وَٱللَّهُ شَهِيدٌ” وبين “وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ”، وهو تناغم دلالي على “شهادة حضورية”، من المولى سبحانه (دون تجسيد)، ومن “أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ” الذين يصدون “عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ”، ويبغونها “عِوَجٗا”. ولأن شهادة هؤلاء “حضورية”، ولأن الـ”شَهِيدٌ” من أسماء الله الحُسنى، فقد جاء ختام الآيتين الكريمتين “وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ”.
وهنا أيضا ينبغي التأكيد على الفارق بين “عَوج” (بفتح العين)، و”عِوج” (بكسر العين)؛ من حيث إن الأولى تتعلق بـ”الاختلال في الشيء الذي له قيام”، كالحائط مثلًا؛ في حين تختص الأخيرة بالدلالة في “المعاني والقيم”؛ بما يؤشر إلى ممارسات “أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ” تحديدًا.. ولا يتعلق الأمر، بهذا الخصوص، بـ”ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ”؛ إذ، كما يبدو، فإن هناك اختلاف بيِّن بين كل من التعبيرين القرءانيين.
وللحديث بقية.