ما إن انقشع غبار أحداث العنف في مدينة أمستردام الهولندية يوم الثامن من نوفمبر ٢٠٢٤، بعد صدامٍ دامٍ بين مشجعي الكرة الصهاينة، ومناصري القضية الفلسطينية؛ حتى عمد كل من الساسة الصهاينة والإعلام الصهيوني إلى استغلال الحدث؛ لتكريس روايتهم عن أنفسهم باعتبارهم ضحايا لحقد ديني أعمى.
لجأ المسئولون الصهاينة بمجرد وقوع الأحداث إلى سلاحهم المفضل: استخدام تهمة “معاداة السامية” بل لم يتردد بعضهم في وصف ما حدث بأنه “مجزرة” وقعت للمشجعين لمجرد كونهم يهودا.
لكن أصوات محدودة في الصحافة العبرية، أبت إلا أن تقدم رواية مغايرة لرواية المظلومية والاضطهاد، التي طالما انتهجها الساسة.
ففي صحيفة هآرتس كتب كلٌّ من المؤرخ موشيه زيمرمان والسفير السابق شمعون شتاين أن “الحافز الذي شجع على الهجوم على مشجعي “مكابي تل أبيب” في أمستردام هو حافز سياسي: فمنذ أكثر من سنة، يتفاعل الناس في كل العالم مع الأخبار والصور الواردة من قطاع غزة، ومن المناطق المحتلة”.
وأضافا أن استخدام الصهاينة لحجة أن الطرف الآخر هو الذي بدأ بالعدوان “تفقد قوتها كلما طالت الحرب في غزة، وكلما أدرك العالم أن إسرائيل هي التي تساهم في إطالة أمدها”.
ويعترف الكاتبان صراحة أن الطرف الصهيوني هو البادي: “إن المارة الذين يرون إسرائيليا يمزق علم فلسطين، أو مشجعي كرة قدم ينشدون أناشيد “نازية” ضد العرب في شوارع أمستردام، لا يعرفون فقط ما يجري، بل يعرفون أيضا كيف يمكن أن يتطور وبمساعدة وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها مشجّعو كرة القدم كثيرا، من السهل إعداد كمين٬ وما جرى هو انزلاق للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني إلى خارج الشرق الأوسط”.
ويسخر زيمرمان وشتاين من استخدام الساسة الصهاينة لحجة معاداة اليهود، ويؤكدان أن “إسرائيل التي تدّعي أنها تمثل اليهود كلهم، تجعل اليهود في العالم أكثر عرضةً للأذى، ولا تحميهم بسبب وجود دولة إسرائيل والمستوطنات٬ لقد لاحظ اليهود في العالم ذلك، لقد أصبحوا رهائن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.
وعلى صفحات نفس الصحيفة المشار إليها أعلاه، كتبت الصحفية الصهيونية ياردين سكوب، تدين سلوك بني جلدتها في أمستردام وتقول: “كان يجب على المشجعين الإسرائيليين عدم تسلُق جدران المنازل في المدينة، وترديد شعارات عنصرية مستورَدة من إسرائيل، أو تنظيم تظاهرة كبيرة باستخدام الألعاب النارية، ولافتات تشجع الجنود على قتل العرب في غزة، حيث يُقتل الكثير من المدنيين، وربما أقارب سكان أمستردام العرب”.
وتضيف بشكل قاطع “لا يمكن تصنيف مساء الخميس على أنه “مذبحة معادية للسامية” ضد أبرياء، إنما كان ردة فعل من سكان المدينة، تجاه زوار استفزوهم بلا داعٍ”.
أحداث أمستردام خيّمت بظلالها على مباراة كرة قدم أخرى بين المنتخب الصهيوني ومنتخب فرنسا، ضمن منافسات أمم أوروبا، جرت على أرض العاصمة الفرنسية باريس مساء أمس.
فرغم اتخاذ السلطات الأمنية الفرنسية، إجراءات غير مسبوقة، من بينها نشر آلاف من قوات الأمن؛ لتأمين المباراة- إلا أن هذا فيما يبدو لم يكن كافيا لإشعار المشجعين الصهاينة بالأمن.
حيث كشفت القناة الثانية عشرة العبرية، عن توجه مدير جهاز الشاباك (الأمن الداخلي) الصهيوني بنفسه، إلى باريس لحضور المباراة وإرسال رسالة طمأنة للمشجعين الصهاينة.. الأمر الذي يدل على مدى الذعر الذي تملّك هؤلاء المشجعين.
رغم كل هذه الإجراءات.. قوبل الصهاينة في عاصمة بلد لطالما أمدهم بالدعم والسلاح على مدار تاريخهم بالاستهجان والرفض، وتجلّى هذا النبذ حين قوبل عزف النشيد الصهيوني قبل بداية المباراة، بصافرات الاستهجان من قبل الجمهور الفرنسي.
وكما في أمستردام، بدأ الصهاينة العدوان على مشجعي الطرف الآخر، وهو ما رصدته عدسات الكاميرات واعترفت به محطة “بي إف إم تي في” الفرنسية، حين أكد تقرير لها أن “المشجعين الإسرائيليين هم من بدأوا بالاعتداء على المشجعين الفرنسيين”.
أما خارج الملعب الذي يستوعب نحو ٨٠ ألف متفرج، والذي لم يزد عدد المتواجدين داخله -في سابقة تاريخية- عن عشرين ألفا فقط، بفضل مقاطعة كثيرين للمباراة؛ علت الأعلام الفلسطينية كما الهتافات بالحرية لفلسطين من قبل متظاهرين متضامنين مع قطاع غزة.
بل إن كافة إجراءات الأمن -أو قُل القمع- التي اتخذتها السلطات الفرنسية، لم تستطع أن تمنع رفع العلم الفلسطيني في قلب الملعب، كما فعل الصحفي الفرنسي الشاب إيمانويل هوارو، الذي تمكّن من تهريب علم فلسطيني إلى داخل الملعب، رغم مراقبة الأمن الدقيقة، ورفعه على مرأى من المشجعين الصهاينة.
ولاحقا، كتب هوارو عبر حسابه على موقع تويتر: كافة الإجراءات التي تحدُّ من حرية التعبير؛ لن تستطيع أن تجعلنا ننسى ما يحدث في قطاع غزة من قتل للمدنيين.
إن ما حدث في كلٍّ من أمستردام وباريس يؤكد أن الصهاينة اليوم باتوا يفتقدون أمرين لطالما وفرها لهم الدعم الرسمي الغربي.. الشعور بالأمن على الأرض أوروبية والشعور بالحصانة من أية مساءلة أو محاسبة أيًا كانت أفعالهم على تلك الأراضي.
فقد أثبتت أحداث أمستردام أن العنصرية الصهيونية لا يمكن أن تمر دون عقاب، وأما باريس فكرّست ما يشعر به كثير من الصهاينة، منذ اندلاع معركة غزة منذ أكثر من عام، أنهم باتوا منبوذين مرفوضين على أراض طالما احتضنتهم ودعمت كيانهم.. وأن هذا النبذ لا تغيره دعاوى “معاداة السامية”.