في أحد مشاهد مسرحية “حدث في أكتوبر” التي قدمها كُلا من: المؤلف إسماعيل العدلي والمخرج الراحل كرم مطاوع.. في منتصف السبعينات. يتوسط الفنان القدير الراحل شفيق نور الدين، خشبة المسرح ويلقي أشعارا صاغها الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي.
تتناول الأبيات التي يلقيها نور الدين، شخصية البطل العربي الأسطوري عنترة بن شداد العبسي، وهو يجيب على من يسألونه، كيف صار بطلا بعد أن كان عبدا في قومه؟
فيجيب عنترة على لسان نور الدين، أن العبرة ليست بالغِنى ولا القوة المادية؛ ولكنه صار بطلا لأنه ببساطةٍ الأكثر صبرا.
فيقول الشاعر على لسان عنترة:
وحين يلاقيني خصمي
ألقاه بأعظمَ من صبره
ونضرب حتى ينكسر السيفان معا
فيصارعني ويأخذ في فمه إصبعي
ويعضُّ عليه وأعضُّ
وليوشك أن يطرحني أرضا
وأوشك أن أصرخَ من ألمي.
ولكني اعتصم بصبري
وأقول لنفسي: لن أصرخ من ألمي أبدا
فلم لا يصرخ خصمي؟
اليوم.. وبعد ١٥ شهرا من لعبة عض الأصابع -المشار إليها أعلاه- بين كلٍ من المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني على أرض قطاع غزة، لم يصرخ الطرف الفلسطيني، رغم أن أهل غزة قد لاقوا من الألم ما يفوق طاقة البشر، إلا أنهم كعنترة العبسي -في تلك الأبيات- يأبون أن يصرخوا، قبل أن يصرخ خصمهم.
في المقابل.. ترسم الصحافة العبرية صورةً لمجتمع يبدو -رغم امتلاكه كافة صور القوة- مُنهكا تعِبا، بعد ١٥ شهرا من القتال المتواصل.
إذ تكاد الفئات المختلفة في المجتمع الصهيوني، تُجْمِع على الرغبة في وقف القتال، وعقد صفقة تبادل للأسرى مع المقاومة الفلسطينية.
حيث كشف استطلاع للرأي، أجرته صحيفة معاريف العبرية، أن أغلبية كبيرة من المشاركين في الاستطلاع (88%) يدعمون صفقة لإعادة الأسرى، سواء كانت كاملة (52%) أو جزئية (36%) وأن فقط 6% يعارضون.
ولم تعد الرغبة في وقف القتال قاصرة فقط على ذوي الأسرى، الذين تحتجزهم المقاومة في قطاع غزة، والذين أكدوا في بيان لهم بتاريخ ٩ يناير ٢٠٢٥، أن “الطريقة الوحيدة لإعادة المختطفين، لا تتم إلا عبر اتفاق”.
ولكنها تجاوزت تلك الفئة إلى فئات أخرى، مثل الأطباء الصهاينة حيث ذكرت قناة كان العبرية، أن أكثر من 200 طبيب وطبيبة يطالبون -عبر نقابة الأطباء- الحكومة بالتحرك الفوري؛ لإنقاذ جميع الأسرى من خلال صفقة شاملة.
كما امتدت إلى أهالي الجنود، الذين لقوا مصرعهم على يد المقاومة في غزة، حيث أوردت القناة ١٤ العبرية، خبرا مفاده أن “بعض عائلات القتلى الإسرائيليين، تقدموا بشكوى إلى الشرطة الإسرائيلية، ضد رئيس الأركان هرتسي هاليفي، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) المنتهية ولايته أهارون هاليفا، بتهمة التسبب في وفاة؛ نتيجة الإهمال عقب أحداث 7 أكتوبر التي أدت إلى الحرب”.
ونقلت القناة ١٢ العبرية أن “أهالي 800 جندي من المشاركين في حرب غزة صرَّحوا: على نتنياهو إنهاء الحرب فورا، ولن نسمح أن يكون قطاع غزة مقبرة لأبنائنا”.
استمرار سقوط قتلى في صفوف جيش الاحتلال، كان أحد أبرز الأسباب التي دعت الفئات المذكورة أعلاه للمطالبة بوقف القتال وعقد صفقة تبادل، وهي رغبة تبنتها أصوات داخل المؤسسة العسكرية الصهيونية أيضا.
وخاصةً بعد مقتل ثلاثة جنود، في هجوم باستخدام عبوة ناسفة، في منطقة بيت حانون، شمال قطاع غزة، حيث يمارس جيش الاحتلال حرب إبادة شاملة منذ أكتوبر ٢٠٢٤.
وذكرت قناة كان العبرية، أن العبوة المستخدمة كانت “ذات قوة استثنائية” وأن “قوة الانفجار كانت شديدة، لدرجة أن برج الدبابة انفصل عن جسمها، وطار لمسافة عشرات الأمتار”.
وأضافت أن أحد الاحتمالات التي يفحصها جيش الاحتلال هي “أن المادة المستخدمة في التفجير، هي نفس التي يستخدمها الجيش لتفجير الأنفاق، لكن من غير الواضح كيف وصلت هذه المادة إلى أيدي المسلحين الذين استخدموها كعبوة شديدة، ما تسبب بهذه النتيجة الكارثية”.
في الوقت ذاته.. ذكرت جريدة يديعوت أحرونوت العبرية أن “عشرة جنود إسرائيليين قتلوا منذ بدء العملية الأخيرة في بيت حانون قبل نحو أسبوعين”.
وهو ما دفع كثيرين للتساؤل، عن سبب وقوع هذا العدد من القتلى، في صفوف جيش ادعى مرارا وتكرارا أنه “سيطر” بالفعل على تلك المنطقة من قطاع غزة.
حيث ذكر نائب رئيس الموساد السابق اللواء احتياط عميرام ليفين في تصريح له : “جنودنا يُقتلون عبثا، لأن ما يجري لا يحقق الهدف المنشود، الحل الصحيح للوضع الحالي، بعد مرور عام وثلاثة أشهر على بدء الحرب، هو إعادة جميع الأسرى فورا، وإنهاء الحرب، وحسم الأمر”.
وأضاف :”على القيادات العسكرية العليا الإصرار بكل قوة على استعادة جميع الأسرى، فهذا هو الهدف الذي تحدد لهم. وعليهم التوقف عن مواصلة الحرب بهذا الشكل غير قانوني بشكل قاطع”.
وطرح الكاتب يوآف ليمور- محلل الشئون العسكرية في جريدة يسرائيل هيوم، مجموعة من التساؤلات على صفحات الجريدة المذكورة: “ما الهدف الحقيقي للقتال في غزة؟ ما الذي يُراد تحقيقه؟ المقاتلون الذين يخاطرون بحياتهم في غزة يستحقون إجابة واضحة، وكذلك عائلاتهم وسكان المناطق الحدودية الذين وعدوا مرارا بالهدوء، ليكتشفوا مجددا أن “الإنذار الأحمر” أصبح واقع حياتهم اليومي”.
ونقلت يديعوت أحرونوت عن ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي قولهم: “بعد مرور عام وثلاثة أشهر، من المستحيل القول بأن المقاومة قد انكسرت”.
ونقلت مجلة إيبوك العبرية عن مصادر أمنية قولها إن استمرار المقاومة في إطلاق الصواريخ هو مؤشر على تعافي ذراعها العسكرية، وأن المقاومة تملك مئات الصواريخ الجديدة، التي أنتجت بعد إدخال “مخارط” في الأنفاق.
ووصف قائد الكتيبة التاسعة في الجيش الصهيوني مقاتلي المقاومة الفلسطينية بالقول “إنهم أناس متدينون، يؤمنون بشيء ما.. معظمهم بالتأكيد على استعداد للقتال؛ حتى آخر رصاصة من أجل هذا الشيء الذي يؤمنون به”.
إن صورة المجتمع الصهيوني اليوم، تتفق مع القصيدة المشار إليها في بداية هذا المقال، فالفارق في القوة المادية بين طرفي المعركة، ليس بخافٍ على أحد، ولكن أحد الطرفين لا يزال صامدا صابرا، رغم عض الآخر على إصبعه.. أما الآخر فقد بدأ في الصراخ بالفعل.