في سياق تبريره للقبول بوقفٍ لإطلاق النار مع عدوه اللدود (العراق) بعد حرب دامية دامت بينهما ثماني سنوات كاملة (١٩٨٠-١٩٨٨) ألقى الزعيم الإيراني آية الله خميني خطابا، إلى الشعب الايراني في صيف عام ١٩٨٨، قال فيه أنه يتجرع “كأس السم الملوث” بقبوله قرارا لمجلس الأمن؛ ينهي الحرب بين الطرفين.
تبدو فكرة “تَجَرُّع السم” أو القبول باتفاق قبول المضطر، الذي لا يجد خيارات أخرى- فكرة رائجة في الإعلام العبري مع إعلان الدول الوسيطة (مصر – قطر – الولايات المتحدة) عن اتفاق بين حكومة الاحتلال، والمقاومة الفلسطينية لوقف الحرب، التي دامت ١٥ شهرا على أرض غزة، وتبادل للأسرى بين الطرفين.
حيث عَبَرَ كثيرون -من خلال هذا الإعلام- لفكرة أن الاتفاق شرٌ لا بد منه بالنسبة للكيان الصهيوني، مثل عضو الكنيست عميت هاليفي، الذي صرَّح أن الصفقة “كما تم الإعلان عنها.. سيئة للغاية لإسرائيل، وتعيدنا إلى ما قبل السابع من أكتوبر”.
وكذلك والد أحد القتلى الصهاينة (يهوشواع شاني) الذي هزَّهُ اعتبر أن “الصفقة لن تكون انتصارا كاملا، بل ستكون فشلا كاملا” معتبرا أن الحكومة الصهيونية، خضعت لضغط الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب.
ولم يُخْفِ عددٌ من المحللين الصهاينة إيمانهم التام، بأن سبب قبول حكومتهم بالصفقة، هو إخفاقها في تحقيق أهدافها من حربها على قطاع غزة.
حيث ذكر المحلل العسكري الصهيوني يوسي يهوشع، على صفحات جريدة يديعوت أحرونوت أن جيش الاحتلال لم ينجح بعد ١٥ شهرا متواصلة من القتال في غزة في تدمير الذراع العسكري للمقاومة الفلسطينية، ولا خلقَ نظامَ حكمٍ بديلٍ في القطاع.
وأضاف “وبهذا قبلنا اتفاقا؛ حيث دفعنا فيه ثمنا باهظا”.
وفي الجريدة ذاتها تساءل الكاتب نداف إيال، عما تغير بين الصفقة الحالية، وما عرضه الرئيس الامريكي بايدن لإنهاء الحرب في مايو ٢٠٢٤.
وقال : “ما الذي تغير منذ ذلك الحين؟ توفي مختطفون قتلا. أكثر من 120 جنديا سقطوا في الحرب. توسع الدمار في غزة، وقتل الآلاف. الموقف الدولي لإسرائيل تراجع”.
أما المحلل العسكري في صحيفة هآرتس عاموس هرئيل فأقر بأن “ليس هناك فائدة حقيقية من القتال في غزة” حيث إن “الجيش لا يقترب من الحسم العسكري الشامل قط، ويتكبد خسائر قاسية في حرب استنزاف طويلة ووحشية”.
كما نقلت الصحيفة عمن وصفته بضباط كبار في جيش الاحتلال قولهم “من غير الممكن في عام واحد هزيمة جيش “إرهابي” أسِّسَ وبُنِيَّ في فترة تتراوح بين 15 إلى 20 عاما” في إشارة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة.
وكذلك اعترفت صحيفة معاريف أنه “بما أن الصواريخ عادت تطلق باتجاه غلاف غزة، وفي كل يوم ينشر الجيش أسماء قتلى من جنوده في القطاع، فإن هدف الحرب بالقضاء على المقاومة لم يعد قابلا للتحقيق، وهذا يدفعنا للانتقال لتحقيق هدف آخر في الحرب هو تحرير الأسرى في صفقة تبادل”.
وشككت صحيفة “إسرائيل اليوم” في قدرة جيش الاحتلال على العودة للقتال في غزة بعد إتمام الصفقة كما يطالب بعض وزراء الحكومة الصهيونية من المنتمين إلى اليمين المتطرف.
حيث قالت الصحيفة “الحرب انتهت – احتمال عودة إسرائيل إليها بعد انتهاء الجولة الأولى من اتفاق الأسرى يتراوح بين ضعيف ومعدوم – أولئك الذين يدّعون خلاف ذلك يكذبون على أنفسهم وعلى الجمهور – وقف إطلاق النار لن يمنح الأطراف دافعا للعودة إلى القتال، بل سيمنحهم دافعا لتمديد فترة الهدوء”.
وهو ما اعترف به أيضا محلل شئون الشرق الأوسط بصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” آفي يسسخاروف حيث وصف الصفقة بأنها “صفقة صعبة، قاسية، بل حتى سيئة في بعض الجوانب. لكنها صفقة لا مفر منها لأنه لم تكن هناك خيارات أفضل، وكانت هذه الطريقة الوحيدة لإنقاذ من يمكن إنقاذه”.
الخوف من المستقبل بعد إتمام الصفقة يبدو هاجسا يراود الساسة والمعلقين الصهاينة، مثل السياسي والبرلماني الصهيوني أرييه الداد, الذي علَّق على الاتفاق بقوله “في اليوم الذي دفعت فيه إسرائيل أكثر من واحد مقابل واحد، حددنا أنه ستكون هناك المزيد من عمليات الأسر، إنها صفقة مربحة. المفرَج عنهم في صفقة شاليط هم من نفَّذوا عمليات الأسر في 7 أكتوبر، والمفرَج عنهم الآن سيكونون الآسرين الحدث القادم، هل هناك طريقة لكسر هذه الحلقة؟”.
وكذلك حذَّر الكاتب في صحيفة إسرائيل اليوم درور أدير، من أن المقاومة الفلسطينية تستعد لما أسماه “غزو آخر” وأنها “ستنغص حياة المستوطنات في الجنوب “أو ما يعرف باسم مستوطنات “غلاف غزة” من خلال “التساقط المتقطع للصواريخ وقذائف المدفعية”.
وأوضح الكاتب أن “الغزيين الذين كانوا أطفالا في وقت الانفصال عن غزة عام ٢٠٠٥، قد استوعبوا جيدا الدرس واخترقوا السياج الحدودي في السابع من أكتوبر” وأن الصهاينة الآن في حالة عد عكسي في انتظار هجوم مماثل للسابع من أكتوبر ٢٠٢٣.
الكاتب في صحيفة هآرتس يئير أسولين ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في مقال له بعنوان “حتى لو احتلت إسرائيل كل الشرق الأوسط، لن ننتصر على غزة”.
وأوضح الكاتب أن “كلما مر الوقت على الحرب في غزة؛ تَعَزَّزَ الاعتقاد بشأن خسارتنا وكم سنخسر؟” حيث “لا يوجد أي انتصار سواء عسكري أو غيره يمكنه محو خسارة ٧ أكتوبر” ويخلص الكاتب إلى أن “نحن خسرنا في ٧ اكتوبر ولا زلنا نخسر”.
اللافت هنا.. هو أنه في حين يقر الصهاينة -عبر إعلامهم- بإخفاق جيشهم وحكومتهم، في حرب هي الأطول منذ قيام دولتهم عام ١٩٤٨، ما زال بعض “العرب” يصرُّون على أن يمنحوا العدو إنجازا لم يحققه، وينفون عن المقاومة الفلسطينية إنجازا يُقرُّ به العدو.