عبر الأزمنة استخدم المحتل الغاصب أدوات بعينها؛ بات من السهل كشفها، والرد على من جعلوا من أنفسهم وسائل متاحة لاستخدام هذه الأدوات وتحقيق النفع منها.. وقد تعددت هذه الأدوات، وكان أشهرها الدعاية المضادة والتشهير برموز المقاومة، بالزعم أنهم يعيشون في ترف أو أنهم يضحّون بالشعب؛ بينما هم وأسرهم آمنون، لا يحزنهم ما يحزن عوام الناس، أو أنهم السبب المباشر في معاناة شعوبهم، وأن ضحايا جرائم الاحتلال، هم -حسب زعمهم- ضحايا تهوّر المقاومين ونزقهم.
اغتيال زعماء المقاومة معنويا -على هذا النحو- يرمي إلى إفقاد المقاومة الظهير الشعبي الذي تعتمد عليه في كفاحها المشروع ضد العدو. ولأن الأعداء دائما لا يعتمدون خطة واحدة في نيل أغراضهم- فإنهم يحرصون دائما على وضع البدائل التي تكون جاهزة في حال فشل الخطة الأولى.
في الأرض المحتلة اعتمد العدو الصهيوني على فئة أسميت بالمستعربين، يجيدون التحدث بالعربية باللهجات الفلسطينية المختلفة، يندسون بين الشباب الفلسطيني المقاوم، بغرض جمع المعلومات أو تسهيل القبض على العناصر الناشطة في العمل ضد الاحتلال، وليس من المستبعد على الإطلاق، أن تلك الفئة تستخدم اليوم في ما عُرف بفاعليات التظاهر ضد المقاومة، والإيهام بأنها المسئولة عن الإبادة الجماعية، والدمار الشامل الذي حدث بالقطاع.
لا جديد فيما ذكرنا فقد حدث ذلك -حرفيا- بُعَيْدَ إخماد جيش الاحتلال الفرنسي، لثورة القاهرة الثانية التي اندلعت في العشرين من مارس 1800، وقادها البطل مصطفى البشتيلي، شاه بندر التجار بحي بولاق “أبو العِلا”.
لم يكن الحاج مصطفى البشتيلي تاجر الزيوت الثري القادم من “بشتيل” بالجيزة بالشخص المجهول، كان ملء السمع والبصر قبل مجيء المستعمر الفرنسي.. جرائم المماليك والعثمانيين التي أسخطت المصريين عليهم، لم تكن تمر في كل مرة بسلام، المصريون عرفوا طرقا عديدة للانتقام، واسترداد ما سُلب منهم.. لم يكن البشتيلي بعيدا عن هذا.. وكانت مجالسه تضم علماء الأزهر وكبار التجار ونجباء طلاب العلم.. البشتيلي أعلن في مجلسه -فور سماعه- بقدوم الحملة أنه لن يدخر وسعا في مقاومة الفرنسيين، وأنه على استعداد تام لإنفاق ثروته لآخر بارة، لرد هؤلاء المعتدين عن البلاد.
حوّل البشتيلي مخازنه لمخابئ بارود، في ثورة القاهرة الأولى شارك دون الإعلان عن هويته، قائدا ميدانيا للثوار في الحي العريق.. وفي عام 1799، قُبض عليه إثر وشاية أحد جيرانه، ولبث في السجن بضعة أشهر وأفرج عنه لأنه لم يثبت عليه شيء، وليس كما ذهب البعض إلى أن الإفراج كان ضمن خطة لتحسين صورة المحتل في عيون المصريين.
في اليوم الأول لثورة القاهرة الثانية.. قاد البشتيلي هجوما ناجحا على معسكرات الفرنسيين، التي خزَّنوا فيها الأقوات المسلوبة من المصريين من غلال ونحوها، نجم عن الهجوم مقتل عدد لا بأس به من الجنود.. وطارت الأخبار في أنحاء القاهرة عن بطولات البشتيلي وبأسه الشديد.
على الأرض انهزم المحتل شر هزيمة، وفقد عددا كبيرا من جنوده الذين وقعوا في كمائن محكمة، نفذها الثوار بمهارة في أحياء القاهرة المختلفة، خاصة حي بولاق “أبو العِلا”. وكعادة المحتل حين يهُزم في الحرب على الأرض- يلجأ كليبر لقصف أحياء القاهرة بالمدافع التي نصبها فوق جبل المقطم.. وبالطبع كان لحي بولاق “أبو العِلا” النصيب الأكبر من القذائف، التي حوّلته إلى أثر بعد عين.
من أجل استمرار القتال.. أخرج المصريون -من بيوتهم- كل شيء مصنوع من معدن، يصلح لصب الرصاص وتصنيع البارود، حتى أواني الطهي وسلاسل الأبواب.. لكن المقاومة استنفذت كل ما لديها من عتاد وعدة.. في بطولة تنبئ بجلاء عن معدن هذا الشعب العظيم.. دخل الجيش الغازي أحياء القاهرة التي خرج منها مهزوما مدحورا طوال أيام الثورة التي استمرت شهرا كاملا – في يوم الحادي والعشرين من أبريل، وقُبض على البشتيلي بعد وشاية رخيصة من حقير، يعيد البعض سيرته اليوم للأسف.
لم يرد كليبر أن يتحول البطل البشتيلي إلى أيقونة للتضحية والفداء عند عموم المصريين؛ إذا هو قضى بإعدامه.. فلجأ إلى حيلة قذرة، هي – كما ذكرنا سلفا- من قبيل الاغتيال المعنوي.. جاء الحكم الفرنسي على البشتيلي بـ “التجريس” وسط حشد من السوقة والدهماء والرعاع، جمعهم المحتل الباغي من كل حدب وصوب، وحشدهم حشد الأنعام إلى حي بولاق الذي شهد صولات وجولات البطل البشتيلي.. أغلب الظن أن أحدا من أبناء الحي لم يشارك في هذه المسرحية الهزلية، التي بدأت بإركاب البطل على حمار بالمقلوب، ولطمه والبصق عليه أثناء مروره بشوارع الحي، ثم إنزاله من فوق الحمار، وسحله وركله وضربه حتى الموت.
هكذا استشهد البطل مصطفى البشتيلي على يد فئةٍ، إذا وصفناهم بنعال المحتل القذرة؛ لرفعنا بذلك قدرهم.. وكان تدبير الجريمة النكراء من فعل الجنرال كليبر، الذي شاء الله تعالى أن يُقتل -شر قتلة- بعد نحو من خمسين يوما لا أكثر، على يد البطل سليمان الحلبي.. ليذهب كليبر ومعه كل غاصب متآمر وضيع إلى مزبلة التاريخ.. أما أمثال البشتيلي والحلبي فسيظل ذكرهم خالدا، وذكراهم عطرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. ولله في خلقه شئون.