رؤى

إيران.. والانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي

أعلن أمس الإثنين، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، أن البرلمان الإيراني بصدد “إعداد مشروع يقضي بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية” (NPT)؛ وهي -كما يبدو- خطوة من شأنها أن تُثير القلق وتزيد من تعقيد الملف النووي الإيراني، وربما تستغلها الإدارة الأمريكية الترامبية لفرض مزيد من الضغوط على طهران.

ويأتي إعلان طهران عن هذه الخطوة، بالتزامن مع استمرار تبادل القصف بين إيران وإسرائيل، في إطار تصعيد غير مسبوق بين الطرفين، وفي سياق صمت دولي وانتقادات -مجرد انتقادات- عربية، والأغرب الانتقادات الإقليمية، والأكثر غرابة المواقف الأوروبية التي عادت  -كما في السابق- إلى النغمة “الغبية” أن “من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها”.

لكن.. هل الانسحاب من المعاهدة ممكن قانونيا وسياسيا؟ وما تداعياته المحتملة على المنطقة والعالم؟

السياق الراهن

تُعدّ التهديدات المتكررة من جانب إيران بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT تطورا خطيرا يستدعي تحليلا معمقا لما وراء هذه الخطوة، وما قد يترتب عليها من تداعيات استراتيجية، إقليمية ودولية. سنحاول هنا أن نقف أولا عند السياق الذي أعلن فيه رسميا عن إعداد مشروع قانون بهذا الاتجاه، ثم نُفصّل في إمكانية هذه الخطوة من الناحية القانونية والدستورية في إيران، يلي ذلك استعراض السيناريوهات المستقبلية المحتملة وآثارها على النظام الدولي، المنطقة.. وأمن إيران نفسها.

بداية، يأتي إعلان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، بالتزامن مع تصعيد في التوترات الإقليمية والدولية. هذه الخطوة ليست أولى، بل تُضاف إلى سلسلة من التحركات السياسية التي تتخذها طهران ردا على قرار مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي وصفها بأنها غير ملتزمة بالتزاماتها، ما اعتُبر تهديدا مباشرا لمصالحها النووية؛ ثم، الضربات الإسرائيلية المتكررة، كما صرّحت إيران، والتي طالت منشآت ونوابض ذات طابع نووي مدنية، ما اعتُبر استفزازا غير مقبول.

أيضا.. التهديدات المتبادلة من الغرب، خاصةً من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بإعادة فرض عقوبات فورية إذا خالفت إيران شروط التزاماتها النووية.

ولذا، يمكن فهم التلويح بالانسحاب بوصفه أداة ضغط سياسية للدولة الإيرانية تسعى لعدة أهداف، أهمها: استخلاص تنازلات من الغرب، تخفيف الضغط الدولي، وتقوية موقفها التفاوضي.

وهنا، يثور التساؤل: هل يمكن لإيران فعليا الانسحاب من المعاهدة.. قانونيا ودستوريا؟

الانسحاب الإيراني

في ما يخص المعاهدة ذاتها، تنص المادة “X” من معاهدة “NPT”، على أن من حق أي دولة الانسحاب عند شعورها أن “أحداثا استثنائية تتعلق بالمعاهدة” راكمت تهديدا لـ”مصالحها العليا”، مع وجوب إخطار الدول الأعضاء ومجلس الأمن قبل 90 يوما، وبيان أسباب الانسحاب. ولعل التجربة التي لا تُنسى، في هذا المجال، هي انسحاب كوريا الشمالية، في عام 2003، بعد إخطار بنحو 3 أشهر عقب اتهامات بانتهاكها شروط “NPT”. لذلك، إيران تمتلك “الحق القانوني” في الانسحاب.

أما في ما يتعلق بالداخل الإيراني، فإن دستور إيران نصّ على التزاماتها الدولية، ولكن النظام يسمح للبرلمان بمناقشة مشروعات قوانين، وإن صدر مشروع قانون يُلزم الحكومة بالانسحاب، فيتبع ذلك تنفيذ رسمي. لكن بقاء “القرار النهائي” مرهون بموافقة مجلس صيانة الدستور والمرشد الأعلى، الذي يُبدي لأول وهلة تحفظا من الناحية العقائدية على امتلاك أسلحة نووية. وبالتالي، فإن “مشروع قانون” لا يعني انسحابا آنيا، بل البداية الرسمية للمسار؛ أي خطوة لاحقة ستتطلب موافقة رسمية من أعلى المستويات، وقد تواجه اعتراضا داخليا واستهجانا دوليا.

إلا أن عاملين لابد من الإشارة إليهما، بخصوص مسألة الانسحاب الإيراني من المعاهدة:

الأول، هو تفكك النظام متعدد الأطراف؛ إذ إن معاهدة “NPT”، تُعتبر حجر الأساس لمنع انتشار الأسلحة النووية، وخروج دولة كبرى مثل إيران سيشكل سابقة تشجع دولا أخرى على الانسحاب (على سبيل المثال، تركيا، السعودية، مصر)، وقد يحدث أثر “الدومينو” في دول غير نووية، بسبب انعدام الثقة.

الثاني، مع خروج إيران، ستندفع دول بالمنطقة لإعادة ترقيم مستوى التهديد. هناك شكوك عميقة بأن إيران قد تشجّع جماعات بالوكالة، وهذا يسهم في سباق جديد لتطوير الأسلحة النووية التقليدية أو الكيماوية، وربما يدفع دولا (السعودية والإمارات) للتوجه لامتلاك قدرات نووية إما سيادية أو من خلال حلفاء.

سيناريوهات مستقبلية

هنا، نجد أنفسنا أما اثنين من السيناريوهات المستقبلية، في ما يتمحور حول مسألة الانسحاب الإيراني من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.. هما:

الأول، الانسحاب بدون امتلاك سلاح نووي؛ في هذه الحالة، قد تعلن إيران انسحابها بعد تقديم إخطار مسبق من 90 يوما، تبرّر به الإجراءات العقابية الغربية والاستخدام “المُسيّس” للوكالة الدولية؛ بل ويمكن أن توقف المراقبة الدولية عن منشآتها، ما يزيد الشكوك حول أنشطة التخصيب والبحث العلمي. وبرغم أن إيران تكرر التزامها بعدم صنع القنبلة، لكن الانسحاب يعطل التزامات “NPT”، ويُضفي شرعية قانونية على التحول نحو قدرات أكثر مواكبة عسكرية، إن رغبت بذلك.

ومن الواضح أن هذا الخيار قد يتحوّل إلى “أدنى نقطة للدخول في سباق”، من دون التصعيد الكامل، لكنه يجعل تفكيك ما تبقى من ضمانات صعبة للغاية.

الثاني، الانسحاب مع التسريع نحو القنبلة؛ إذ لو قررت إيران تسريع برنامج تخصيب اليورانيوم إلى مستويات قريبة من الدرعية، أو تسابق الزمن لصنع رأس حربي، فإن الانسحاب سيزيل العقبات القانونية، ويشير إلى استعداء عالمي. هذه الخطوة قد تدفع المجتمع الدولي -الغرب تحديدا- لفرض إجراءات صارمة (عقوبات اقتصادية، مالية، وحتى استعداد لإجراءات ضريبية أو عسكرية). السيناريو الأقرب هو تقلص الخيارات الدبلوماسية، وازدياد احتمالات تدخل عبر مجلس الأمن، أو من قبل حلفاء إسرائيل والغرب.

في هذا الإطار.. يمكن القول إن الانسحاب من المعاهدة يمكن اعتباره “رشقة ضغط تكتيكية”، لكنها محفوفة بالمخاطر؛ إذ إن الانسحاب المنفذ “بدبلوماسية محسوبة”، أي دون تخطي سياسة الحدود عبر الحرب أو القنبلة، قد يعود بمنافع تكتيكية أكثر؛ لكن بمجرد تجاوز ذلك، تصبح المنفعة الرمزية قاعدة لتصعيد مكلف إلى حد قد يهدد بقاء النظام الاقتصادي والسياسي.

وفي اعتقادنا، أن السيناريو الأكثر ترجيحا هو أن يكون الإعلان بمثابة ورقة ضغط أكثر من كونه رغبة حقيقية في الذهاب نحو الانسحاب، والتوجه إلى السلاح النووي، خاصةً في ظروف مثل التي تمر بها راهنا الدولة الإيرانية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock