لم يجد في المحاماة ما يشبع رغبته في التعبير عن آرائه ومواقفه المناهضة للاحتلال الإنجليزي والمدافعة عن قضايا الحرية والاستقلال والدستور، فهجرها واحترف الصحافة التي كانت في تلك الأثناء منبرا للوطنيين والمناضلين وأصحاب الرأي.
تعرف عبد القادر حمزة (1880- 1941) عقب تخرجه من مدرسة الحقوق عام 1903على الأستاذ أمين الرافعي الصحفي في جريدة اللواء لسان حال الحزب الوطني، فرشحه الرافعي للكتابة في بعض الصحف ومنها صحيفة “الجريدة” وهناك توطدت علاقته بالأستاذ أحمد لطفي السيد رئيس التحرير، وبعد هجره للمحاماه واحترافه الصحافة رشحه الأخير عام 1910 لرئاسة تحرير جريدة “الأهالي” التي كانت تصدر في الأسكندرية.
عبد القادر حمزة
توافقت أفكار حمزة الوطنية والثورية مع أفكار الزعيم مصطفى كامل ورفاقه من مؤسسي الحزب الوطني، فلما تولى رئاسة تحرير “الأهالي” تحولت إلى منبر للحركة الوطنية، وعندما قامت ثورة 1919 هاجمت “الأهالي” سعد زغلول والوفد فأشعل المتظاهرون فيها النيران.
استمرت “الأهالي” في مهاجمة الاحتلال والسراي، وانتقدت مشروع ملنر، واعتبره حمزة محاولة لافشال مفاوضات سعد زغلول والوفد مع الإنجليز على الاستقلال، وخاضت “الأهالي” عام 1920 حملة ضد المشروع وبنوده، حتى تحولت الصحيفة كما وصفها البعض إلى منشور ثوري يوزعه الطلبة في الجامعات نظرا لقلة عدد باعة الصحف.
مناصرة الوفد
ولما عاد سعد زغلول من الخارج، لم يجد من الصحف المناصرة للوفد ولقضية الاستقلال أقوى من “الأهالي” فدعا صاحبها عبد القادر حمزة إلى الاجتماع متناسيا هجومه عليه، وخرج حمزة بعدها ليقول: “لقد وجدت أنني متفق مع سعد زغلول”، ليصبح هذا التصريح إيذانا بأن تتحول “الأهالي” إلى جريدة وفدية، ما زادها انتشارا وتوزيعا، كما عرضها إلى المزيد من المصادمات والمصادارات والإنذارات إلى أن توقفت تماما.
اتجه حمزة بعد توقف “الأهالي” إلى الكتابة في جريدة “المحروسة”، وكانت مقالاته فيها أقرب إلى طلقات موجهة إلى صدور الاحتلال والحكومة الموالية، فضاقت السلطة بها وصدر قرار بتعطيلها، فلم يجد صاحبنا طريقا للتعبير عن آرائه سوى كتابة المقالات وطبعها في منشورات حرة لا تخضع للرقابة يوزعها الطلبة في الجامعات والمقاهي، حتى استقر به الرأي واستأجر جريدة “الأفكار” واستمر فيها حتى يناير عام 1923، بعدها حصل على تصريح لإصدار جريدة “البلاغ” وصدر عددها الأول في 28 يناير من سنة 1923.
وعلى الرغم من تعدد الصحف الوفدية في تلك الفترة إلا أن “البلاغ” ظلت هي جريدة الوفد الأولى، خاضت معاركه ونطقت بلسان حاله الذي كان لسان حال الأمة في تلك الفترة.
سعد زغلول
معركة الدستور
في نهايات عام 1924 وعلى إثر الاضطرابات التي أعقبت مقتل السير لي ستاك، استقالت وزارة سعد زغلول وصدر مرسوم ملكي بتكليف أحمد زيور باشا بتأليف الحكومة، وكان أول قرار لها هو تأجيل إنعقاد البرلمان، ثم أصدرت قرارا آخر بحل مجلس النواب والدعوة لانتخابات جديدة مطلع عام 1925، نجح في تلك الانتخابات مرشحي الوفد وفاز سعد زغلول برئاسة مجلس النواب، فصدر مرسوم آخر بحل المجلس، فثارت الصحف ضد تعطيل الحياة النيابية.
حينها دعا الأستاذ أمين الرافعي رئيس تحرير جريدة “الأخبار” إلى انعقاد البرلمان بمجلسيه من تلقاء نفسه يوم السبت 21 نوفمبر عام 1925 من غير دعوة الملك، ولقيت دعوة الرافعي تأييدا من نواب البرلمان وقرروا عقد الاجتماع في موعده الدستوري إلا أن السلطات منعت الاجتماع في مقر البرلمان فاجتمعوا في فندق الكونتنتال واصدروا عدة قرارات منها الاحتجاج على تصرفات الوزارة واعتبار دور الانعقاد قائما كما قرروا حجب الثقة عن الوزراة طبقا للمادة 60 من دستور 1923.
وكتب عبد القادر حمزة في مقاله “العصا” بجريدة “البلاغ”: إن الأمة سجلت على الوزراة إنها تحتل بقوة الجيش دار النيابة وتمنع بالسلاح البرلمان من الاجتماع، وتذهب في ذلك إلى أن يقف الجند في جميع المنافذ المؤدية إليه، وكأنما هذه الدار مقر للوباء لا لسلطة الأمة، وكأنما هذا الشعب الذي صدته عن الذهاب إلى داره ليس من الأمة، ثم كأنها هي سيدة لهذا الأمة تأمر وتنهي لا خادمة لها مأجورة عندها”.
وطالبت “البلاغ” الوزراة بالاستقالة إنفاذا لقرار البرلمان بسحب الثقة منها، وقال حمزة: هذه البلاد ليست ضيعة ورثها الوزراء عن آبائهم وقد حملت البلاد من عواقب جشعهم وتكالبهم على المصالح المادية ما حملت وصبرت على تبديدهم أموالها وعبثهم بحرياتها ما صبرت”.
وفي عام 1930 وعقب تشكيل حكومة إسماعيل باشا صدقي إثر استقالة حكومة النحاس، استصدرت الوزراة مرسوما ملكيا بابطال دستور 1923 وإعلان دستور 1930، وحل البرلمان بمجلسيه، وعدل صدقي من قوانين الصحافة والمطبوعات وشدد من العقوبات في جرائم النشر لتصل في بعض الجرائم إلى السجن 5 سنوات، ما دفع معظم الصحف المصرية إلى اتخاذ موقف عدائي من الحكومة الصدقية.
وكتب عبد القادر حمزة في مقاله في ـ”البلاغ”: إن الدستور هو الثمرة الوحيدة التي خرجت بها الأمة من جهادها الوطني، وإن صدقي رد الأمة إلى الخلف خمسين عاما، مؤكدا أن الأمة التي ثارت من أجل سلطتها في سنة 1882 لن تسكت على ضياع سلطتها عام 1931.
وهاجمت “البلاغ” دستور 1930، وسمته الدستور “الصدقي” ورفضت كل ما نتج عنه من مجالس نيابية أو قوانين وقررات، مؤكدة أن دستور 1923 هو المنجز الوحيد لنضال الشعب المصري بعد كفاحه المرير مع الاحتلال الإنجليزي.
الاستقلال عن الوفد
على هامش معارك عبد القادر حمزة السياسية التي عرضته للوقوف مرات أمام جهات التحقيق في قضايا نشر، كانت له معركة شخصية مع زميله وغريمه توفيق دياب صاحب ورئيس تحرير جريدة “الجهاد” الوفدية أيضا، وصلت ذروتها في التراشق بالألفاظ والاتهامات إلى حد رمي كل منهما الآخر بمطاعن تمس السمعة الشخصية. لم تتوقف هذه المعركة إلا بعد تدخل عدد من كبار الصحفيين منهم كامل الشناوي الصحفي والشاعر، وكان يمتاز بملكة تقليد الأصوات فاتصل بدياب على أنه حمزة وبدأ المكالمة مهادنا معتذرا، ثم اتصل بحمزة على أنه دياب وبادر بتصفية الخلاف ثم اتفقا على لقاء، ولم يكتشف أحد حيلة الشناوي إلا خلال اللقاء الذي انتهى بعودة الود والوئام بين الطرفين.
رغم تأييد “البلاغ” للوفد، إلا أن ذلك لم يمنع من استقلالها وتحررها ماليا وإداريا من نفوذ الحزب، ما جعل من السهل على رئيس تحريرها عبد القادر حمزة أن يغير سياسة الجريدة بمجرد اختلافه في الرأي مع الوفديين وهو ما حدث عام 1934 عندما اصطدمت مواقفه بمواقف زعيم الوفد مصطفى باشا النحاس، فصارت “البلاغ” صحيفة غير الوفديين، وظلت كذلك حتى عدل سياستها محمد عبد القادر حمزة عقب وفاة والده.
عُين عبد القادر حمزة في المجلس المؤقت لنقابة الصحفيين إثر صدور قانونها عام 1941، وكان من أشد المدافعيين عن حقوق المحرريين. وعلى هامش رحلته الصحفية أخرج حمزة قبل وفاته في 6 يونيو عام 1941، مجلد ضخما تناول فيه بالدراسة تاريخ مصر الفرعونية بعنوان «على هامش التاريخ المصري».