رحم الله الشيخ الإمام ابن خلدون الذي قال قبل قرون: المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه و نحلته وسائر أحواله و عوائده.
رأيت وضع كلام الإمام بين يدي مقالي لكي تصل رسالة المقال واضحة لا لبس فيها ولا غموض. أحوالنا التي نعيشها ونكتوي بنيرانها تدل دلالة أكيدة على صدق تشخيص ابن خلدون، فنحن، أعني المصريين والعرب بل وأمة المسلمين، وقعنا منذ زمن بعيد في قبضة هزيمة حضارية، والطيب منا هو الذي يعترف بها، لأن الاعتراف بالمرض هو أول خطوات الشفاء، تلك الهزيمة جعلتنا نقع في فخ تقليد الغالب، وما الغالب سوى الأمريكان والغرب، نقلد الغالب دون النظر لظروفنا وظروفه.
الغرب انتهى منذ زمن بعيد من تأسيس حضارته وبناء شخصيته، وقد قضى أو كاد يقضي على عوامل البؤس والفقر والتخلف والجهل، والآن يسعى نحو المزيد من الرفاهية والمزيد من الرخاء، بل هو يسير في اتجاه اختراع أشكال من الرفاهية لم تشهد البشرية لها مثيلًا، فأين نحن من كل ذلك؟
الغرب ومعه الأمريكان يؤمنان بالحضارة التعاقدية، كل شيء متاح مادمت تدفع ثمنه وفق عقد يلزمك بواجبات ويضمن لك الحقوق، مادة العقد لا تهم الغرب في شيء، حتى لو قضت على أعظم المشاعر الإنسانية، حتى لو كانت ستنسف أسس الأسرة التي هى النواة الأولى للمجتمع، الذي يهم الغرب هو ضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من الفائدة الحسية التي يمسكها الإنسان بيديه.
في هذا السياق رأى الغرب أن من حق الرجل المتعب الحصول على أحضان وقبلات من امرأة جميلة تخفف بها عنه متاعبه، يذهب الرجل المتعب إلى المرأة التي تملأ إعلاناتها مواقع التواصل الاجتماعي يطرق بابها بكل هدوء، تفتح له الباب وتأخذه بين أحضانها وتداعبه بلطف وتقبله ثم يدفع لها أجرتها ويغادرها.
أجر مقابل عمل، فأين التضامن؟ بل وأين الإنسانية؟. أين احترام المشاعر، بل أين احترام معنى الحضن والقبلة ؟ القصة هى قصة دولارات لا أكثر ولا أقل، دولارات تمسخ المعاني الجليلة وتهبط بها من علياء الرحمة والتضامن إلى قاع النفعية المادية.
شاع هذا الاختراع غير الإنساني حتى أن جريدة كبرى من جرائد الإنجليز “ذي إندبندنت” رصدت في تقرير لها أغرب الوظائف التي بدأت تنتشر في المملكة المتحدة، فقالت إن شركة خاصة ستوفر فعاليات الأحضان للموظفين الذين يشعرون بتوتر، وأنها تبحث عن وظيفة “مانح الأحضان”، شرط أن يكون محترفا، براتب يصل إلى نحو 40 دولارًا في الساعة، وأن ورش العمل هذه قد تستمر لمدة 8 ساعات يوميا، لمنح المشاركين أكبر قدر من الأحضان.
أشار التقرير إلى وظيفة جديدة ابتكرتها اليابان من أجل التخفيف عن النساء العاملات، الوظيفة الجديدة تمكن المرأة من اختيار رجل وسيم من بين مجموعة تعرض عليها، ليأتي إلى محل عملها، ويشاهدان معًا أفلاما تراجيدية تستثير دموع النساء، حتى إذا ما ذرفت السيدة أو الفتاة الدموع، بدأ الرجل في مسح دموعها للتخفيف عنها، ولكل سيدة أو فتاة حق الاختيار من بين ستة رجال، أحدهم يظهر بمظهر طبيب الأسنان، حيث إنه من المعروف عن أطباء الأسنان رقة المشاعر ولين القلب، على أن تبلغ تكلفة المهمة إجمالًا 40 جنيها إسترلينيا في الساعة، أي ما يعادل 490 جنيها مصريا تقريبا.
ما علاقتنا نحن بهؤلاء؟ هل تقبل امرأة مصرية عربية، مسلمة كانت أم مسيحية، رؤية زوجها التعيس المرهق بين أحضان امرأة غيرها؟ وهل يقبل رجل مصري عربي، مسلم كان أم مسيحيًا، رؤية زوجته تتلقى قبلات من رجل غيره؟ ثم أليس من الجائز أن تفتح القبلة مدفوعة الثمن الباب لما هو أبعد منها؟ الرغبة الإنسانية تقول بجواز حدوث ذلك، فمن ساعتها سيدفع الثمن؟.
أسئلة بسيطة بل ومشروعة مثل هذه لم تخطر على قلوب المغلوبين المولعين بتقليد الغالب، لقد قامت جماعة من المغلوبين بنشر هاشتاج على الفيس بوك وتويتر يقول: “علاج البؤس حذف الهمزة” الهاشتاج كان بالون اختبار فإن ابتلع المجتمع غرابة العلاج المزعوم، انتقلت جماعة المغلوبين إلى موضع جديد، وهذا ما كان. قالت جماعة المغلوبين إن سيدة تدعى “سها عيد” تحمل درجة الدكتوراه في العلاج النفسي تعالج الناس بالأحضان والقبلات! انتشر الخبر انتشار النار في الهشيم، حتى أن صحفًا مصرية معتبرة نشرته دون تعليق ولا مناقشة بوصفه من أخبار الخدمات العامة، كأنه موعد تحرك قطار أو إقلاع طائرة.
المعالجة سها عيد
هل ظهر لك الآن خبث هدفهم والسم الذي يدسونه في رسالتهم؟ تكاثر الصحفيون والإعلاميون على باب السيدة سها فخرجت عن صمتها وقالت لبرنامج تلفزيوني إن ما تردد عن أنها تعالج الناس بالأحضان والقبلات، هو خبر عار تماما من الصحة، وأنها خبيرة في مجال “طاقة المكان” وليست طبيبة نفسية. وأكدت أن الأمر يعود إلى مقالة كانت قد كتبتها عن فائدة الاحتضان والاحتواء داخل الأسرة المصرية، وأن الشعب لديه عجز في التعبير عن المشاعر، ولا تجد الأب والأم يحتضنان أبنائهما.
وأضافت: ” لن أقبل اعتذار الصحف التي نشرت عني أخبار العلاج بالقبلات، إلا إذا كان مكتوبًا”، مطالبة زملائها بالتضامن معها، خاصة أن الخبر يتحدث عن أنها تعالج الناس بالقبلات، وهو أمر مهين.
هل التصريح القاطع من السيدة سها أسكت جماعة المغلوبين؟ لقد تجاهلوا تصريحها عن عمد وقصد، لكي يواصلوا بث رسالتهم المريبة، فأبدًا لن تصبح القبلات أو “البوس” علاجًا للبؤس. علاج البؤس يكون بالتقدم العلمي ومحاربة الفساد والجهل ونشر الرخاء والاستقرار، أما علاجهم المزعوم فهو تقليد مريب للغالب يدفعنا للخلف ولا يقودنا إلى الأمام.