تعامل الفنان التشكيلى جورج البهجوري مع فن الكاريكاتير باعتباره وردة جميلة يحرص على إهدائها لجمهوره، ومن ثم سعى لأن تكون رائحتها ذكية ومتنوعة وجميلة لكى لا يمل منها المتلقي، وعبر رحلة امتدت عبر أكثر من ستة عقود، اقتنصت ريشة البهجوري العديد من الأحداث والمواقف والشخصيات التي قدمها لنا بأسلوبه المميز وخطوطه المتفردة.
عندما تلتقي البهجوري في مرسمه الكائن بشارع معروف بوسط القاهرة، عليك أن تعلم أن وجهك لن يفلت من ريشته، فما هي إلا ثوان معدودة حتى يكون قد انتهى من رسمك وأن لم تطلب ذلك، فما أن يشعر البهجوري براحه تجاه زائره حتى يبادر على الفور برسمه.
البهجوري، الذي تم تكريمه هذا الشهر كضيف شرف أول دورة لسمبوزيوم الفن التشكيلي المصري الأردني في ختام فعالياته في عمان الأحد الماضي، تتميز ألوانه بالدفء مثل روحه التي تشع في أعماله الفنية، سواء الكاريكاتير أو اللوحات الزيتية.
“أصوات” التقت البهجوري في مرسمه للتعرف على عالمه واستجلاء خلاصة تجربته الفنية على مدى 60 عاماً. وهنا نص الحوار:
استضاف جاليري “ضي” أخيرا أحدث معارضك، فماذا عنه؟
ضم المعرض عددا كبيرا من الأعمال الفنية التي قدمتها على مدار رحلتي، ومنها أعمال لم أعرضها من قبل رغم انتهائي من رسمها في الستينيات والسبعينيات خلال إقامتي في فرنسا، ما يجعلني أشعر بسعادة بالغة بهذا المعرض وما لمسته من احتفاء الجمهور بما ضمه من لوحات.
المعرض تضمن أعمالاً خاصة بأم كلثوم، التي سبق أن خصصت لها معرضاً كاملاً، ما سر ولعك بها؟
لا أرسم أم كلثوم، لكني أرسم الوطن، فهي ضميره، أخذت كوبليه “مصر التي في خاطري” للشاعر الكبير أحمد رامي، الذي تغنت به أم كلثوم، وكلنا معها، عبرت عن هذا المعنى بخطوط ريشتي في لوحات المعرض، كما قدمت فيلماً تسجيلياً عن أم كلثوم وهي تشدو بكلمات نفس الأغنية.
سيدة الغناء عبرت عن الحنين للوطن، وكنت أريد أن أطلق على هذا المعرض عنوان أنين الوطن” كي أعبر عن الحنين والوجع الموجود بداخلنا، كل لوحة تحكي هذا بالألوان أو من خلال وجه أم كلثوم، أول شيء أرسمه هو فتحة الفم الذي ينطلق منه صوت أم كلثوم بالغناء، فالبُعد الأول هنا هو الصوت الذي يحضر في الأذن من خلال اللوحة المرسومة، وليس أم كلثوم نفسها.
الوسائط الجديدة دخلت في تحد مع الكاريكاتير بما تقدمه من نماذج مختلفة، كيف ترى ذلك؟
هذه الوسائط ساهمت في انتشار الكاريكاتير بصورة أكبر، لكن مثل هذه النكت أو الصور التي يتم لصقها تروج لمن يقدمها فقط، ربما تزيد من الخيال وهذا في حد ذاته شيء جميل، لكنها ليست رسما ولا تدخل في منافسة مع رسامي الكاريكاتير.
عاصرت عددا من الأجيال من رسامي الكاريكاتير، ماذا تراه يميز كل جيل؟
نحيا كلنا نفس الصراع من أجل الحرية، يتملكنا الاصرار على نشر أعمالنا كما هي دون مساس الرقيب بجزء من الخط أو حذف كلمة من التعليق. الرقابة زادت مع الأجيال الأخيرة بسبب سطوة الخطاب الديني وسهولة الاتهام بازدراء الأديان، ورغم أن فن الكاريكاتير يزدري غالبا كل شيء إلا أنه بالطبع يحترم المقدسات ويقترب منها بالحرص الواجب.
تمتلك أسلوباً خاصاً لا ينافسك فيه أحد، هل تكشف لنا مفردات أسلوبك الفني؟
أنتمي لأسلوب خاص بي لا يشبه أحدا بالطبع، يبدأ بالخط الواحد الذي يبحث عن نفسه، خط استفاد من الخبرة ومدارس بيكاسو وألوانه، أو كما عبر عنه الناقد صلاح بيصار: “بهجوري فرع من فروع شجرة اسمها بيكاسو”، وقد أعجبني هذا التعبير، وكرره أيضا ناقد فرنسي وصفني بأنني “بيكاسو مصر”.
في الثمانين من العمر كيف تنظر لرحلتك مع الفن؟
لازلت أكتشف نفسي حتى مع تجاوزي الثمانين، السخرية والشغف بالكاريكاتير موجودة معي منذ الطفولة، وازدادت توهجا لدى دراستي الفنون الجميلة، وجدت أستاذي بيكار يلخص الوجه والجسم بشكل مبهر، اختزلت مثله، بيكار أعطاني الضوء الأول، وتبعه أبو العنين، كان لدي إسناد نفسي، بدأت أكتشف السخرية عندي ووظفتها في أعمالي بالصحافة لنقد كل شيء، ثم ظهر صلاح جاهين، بهجت، رجائي، ونيس، وحجازي الذي اعتلى عرش الكاريكاتير في ذلك الوقت، أنا أحد هذه الزمرة والكوكبة التي تألقت في هذا الفن، الفضل يعود إلى فترة التألق الوطني مع جمال عبد الناصر في الستينيات، ما أتاح للمبدع وقتها أن يقدم أفضل ما لديه، وهو ما افتقدناه لاحقا.
وكيف تطوع تجربة وخبرات السنين لتطوير عملك؟
المبدع بالطبع يستفيد من خبرات السنوات الماضية، الإداء حالياً أصبح سهلاً عن ذي قبل، فالنكته التي كنت أرسلها لجريدة الأهرام أربع مرات أسبوعياً بعنوان “خط واحد” أكتبها الآن في ثانية، تمكنت من اليد والخط فأطلقت عليها “خط واحد”، أى خط لا يشتبك مع خط آخر، يعبر بسرعة، يضُحك، يكون صاحب رأي، يحرض على فكرة معينة، ينقد رجعية نظام أو فاشية حكم، خط يقول الكثير. العمل أصبح أسهل مع تقدم العمر، ربما أحتاج للراحة بعض الوقت مع ضعف عضلات اليد نتيجة المجهود، لكن شعلة الموهبة أكثر وهجاً واشتعالاً والأداء أنضج.