يواجه العالم شبح الفناء المروع تحت وطأة الزيادة السكانية المفرطة ونضوب الموارد. رغم ذلك يبقى الأمل معقودا على “تكنولوجيا تقليص الأحجام” (Downsizing) من أجل إنقاذ البيئة والاستفادة القصوى من مصادر الثروة.
فالأشخاص صغار الحجم يستهلكون كميات أقل من الطعام، ويحرقون معدلات أقل من الوقود، وتنتج عنهم كميات أقل من النفايات، ولا يشغلون مساحات كبيرة كالأشخاص ذوي الحجم الكامل. “إنه قرار متطرف لكنه منطقي”.. تلك هي الفرضية التي ينبني عليها فيلم الخيال العلمي Downsizing.
عادة ما يبهرك أي فيلم أثناء مشاهدته بلحظة مكاشفة تعبر عنها جملة في حوار، أو مشهد، أو حتى معزوفة موسيقية، تجعلك تتساءل عما إذا كانت هذه اللحظة ضربة حظ قلما يجود بها الواقع، أو محض صدفة سعيدة لا تنتمي إلى طبائع الأمور.
على أية حال، لن يخالجك هذا الهاجس أثناء مشاهدة فيلم Downsizing، الذي أخرجه ألكسندر باين؛ حيث سيلاحقك بأفكار تنطوي على عبقرية مطلقة. وفي لحظة بعينها (أثناء عملية التحول المذهل إلى إنسان لا يتعدى طوله خمس بوصات) ستدرك أنك بصدد إما عملية خداع غير مسبوقة، أو عمل فذ غير مسبوق.
يصور الفيلم عالًما مستقبليا يتمكن فيه عالِم إسكندنافي، أشعث وأشقر وبدين ويرتدي نظارة طبية (بما يجعله إسكندنافيا بكل معنى الكلمة)، من التوصل إلى ما يمكن وصفه بأنه “صفقة تفوق في أهميتها حدث الهبوط على سطح القمر”. يتمثل هذا الاكتشاف في جهاز قادر على إنقاذ البشرية من شبح الفناء المخيف بمجرد سحب مقبض لأعلى والضغط على زرين لأسفل؛ حيث يؤدي ذلك إلى تقليص حجم المادة العضوية على المستوى الخلوي.
يلعب بول سافرانيك (الممثل الأمريكي، مات ديمون) دور المواطن الأمريكي العادي الذي تراوده أحلام الحياة المثالية؛ لكن حظه العاثر يضن عليه بتحقيقها. وعلى غرار ملايين آخرين، يشاهد بول العرض الذي قدمه العالم الإسكندنافي على شاشة التلفاز منذ سنوات. وعلى غرار ملايين آخرين أيضا شاهدوا اختراعات فذة مشابهة على شاشات التلفاز على مدى سنوات – بدءا من السيارة ذاتية القيادة، ووصولا إلى الحقيقة الافتراضية – يتساءل بول عن إمكانية تحول هذه الفكرة إلى مجتمع حقيقي يسير على الأرض.. وهو ما كان.
في الحال، يغدو التحول إلى إنسان صغير الحجم خيارا يتعلق بنمط الحياة. وتتشكل في جميع ربوع البلاد مجتمعات من أفراد لا يتجاوز طولهم خمس بوصات، تنتشر في شكل مستوطنات تزهو على مجتمعات الأفراد ذوي الأحجام الطبيعية بتراجع كبير في معدلات الجريمة، وبالسعادة الشاملة.
وتروج في كل الأرجاء الملصقات والدعايا التي تنافح عن الفكرة باعتبارها السبيل الوحيد لإنقاذ البيئة من الانبعاثات الكربونية، وتراكم النفايات، ونضوب الموارد. ويكفي أن تعرف – كما تقول الملصقات – أنه إذا أصبح طولك خمس بوصات فإن “عقد الألماس المطعم بالبلاتين لن يتكلف أكثر من 100 دولار فقط”.
مستلهما نموذج أحد أصدقائه الطاعنين في السن، الذي لجأ إلى تقليص حجمه للتخلص من أزمات منتصف العمر، وليس لأي أسباب تتعلق بإنقاذ الكوكب، يقرر بول الانتقال إلى المدينة الفاضلة المزعومة. وفي حفل وداع مفعم بالعواطف، يقوم بتصفية كل الأصول التي يمتلكها، وينزع أسنانه. وبعد خمس ساعات فقط تُجرى مراسم استقباله في مجتمع Leisureland، للبشر صغار الحجم.
يمتلك الفيلم من حيث الشكل بريق أفلام هوليوود ذات الميزانيات الهائلة، وينطوي من حيث الجوهر على روح أفلام الكسندر باين التي عادة ما تكون أعمالا تهكمية تدور في نطاق محدود لا يتجاوز دوائر العلاقات الإنسانية المباشرة، مثل العلاقة بين الآباء والأبناء (Nebrasks)، أو العلاقة بين الأصدقاء (Sideways)، أو حتى علاقة شخص متقاعد بابنه التنزاني بالتبني (About Schmidt). وتصور هذه الأفلام جميعها حياة رجال بيض أدركوا في لحظة استنارة – ربما متأخرة – أن الحياة طويلة وبائسة، وأن السبيل الوحيد لإضفاء بعض الإثارة عليها يكمن في اتخاذ قرارات متهورة.
يبقى فيلم Downsizing أعقد من ذلك بكثير. فهو لا يسير على وتيرة واحدة، وإنما يعيد اكتشاف نفسه، ويطور قناعاته بصورة مستمرة، وينتقل عبر مدارج سلسة من الكوميديا السطحية إلى السخرية العميقة، حتى يصل في النهاية إلى الخيال العلمي الكامل.
إضافة إلى ذلك، فإن الفيلم، الذي لا يتجاوز حجم شخصيته الرئيسة عبوة المياه الغازية، ينطوي – على سبيل المفارقة – على سيل من الأفكار والمفاهيم العميقة والمعقدة والخلافية بدرجة كبيرة، مثل: الاستدامة، والطبقة الاجتماعية، والتعصب، وجوهر الوجود.
ومع ظهور شخصية نوك لان (التي جسدتها الممثلة، هونج تشاو)، المعارضة الفيتنامية، التي قلصت حكومتها حجمها رغما عنها، وتسللت إلى Leisureland بطريقة غير شرعية داخل مغلف بريد فيديكس لتتحول فيها من مثقفة مناضلة إلى خادمة، ينعطف الفيلم، جنبا إلى جنب مع قناعات بول، إلى نهاية غير متوقعة. فحتى اليوتوبيات – كما يراها بول الآن رأي العين – تحتاج إلى أشخاص يقومون بالأعمال القذرة (كتنظيف الأرض من التقيؤات)، ويرزح أحيانا تحت نير هذه الأعمال مثقفون كانوا يوما يضطلعون بتأليف الكتب وتوعية الجماهير وصناعة المستقبل.
تريلر الفيلم