“الحور العين تفصص البسلة” هي المجموعة القصصية الثانية للكاتبة الروائية المتميزة صفاء النجار، وذلك بعد مجموعتها الأولى “استقالة ملك الموت”، وروايتيها “البنت التي سرقت طول أخيها”، و”حسن الختام”.
إذا اعتبرنا العنوان عتبة أولى لدخول العمل الأدبي، وهو كذلك بالفعل، فسوف يلفتنا عنوان هذه المجموعة الأخيرة لأنه يجمع بين ما هو غيبي أو مدرك فحسب، بالخيال الذى يرسم صورة تجسيدية لما هو موحى به. هذا هو المستوى الأول الذى تمثله دالة “الحور العين” غير أن هذا المستوى يرتبط ارتباطا نحويا بالمستوى الثاني، بما يعني أنه لايكتمل معناه إلا بجملة “تفصص البسلة” التي تمثل ما هو أرضي حياتي معيشي.
يصنع تجاور هذين المستويين مفارقة أولى سوف نلاحظها على مدار هذه المجموعة القصصية. تقوم المفارقة على ضرب أفق التوقع الذي ينتظره القارئ، فالحور العين ترتبط في وجداننا جميعا بالجمال ومتعة النظر ونعيم الآخرة، وهو ما يتناقض فعليا مع إيحاءات الجملة التي ترتبط بالأعمال اليومية المعتادة.
ولعلي لا أكون مبالغا إذا قلت إن هذه المفارقة تذكرنا بأسطورة بيجماليون التي صورها توفيق الحكيم فى إحدى مسرحياته الفاتنة، والتي تدور حول تحول نموذج الجمال – أو تمثاله – إلى كائن حي، ما يفقده السحر والجاذبية، وهذا ما تلاحظه الساردة متسائلة في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها: هذه التي تزن مائة كيلو، حورية؟ والتي تسير وخلفها وصيفات وغلمان هي الحورية العيناء. (ص 74).
والحقيقة أن فكرة التحول من حالة إلى أخرى سواء كان هذا التحول بالسلب أو الإيجاب تعد تيمة متكررة فى هذه المجموعة القصصية، ففي القصة الأولى التي تحمل عنوان “الأميبا” تحكى الساردة “أن الله رق لحالها قبل أن ينفخ فيها من روحه عندما رأى وجهها المنتفخ كوحمة حمراء بعينين جاحظتين وأنف أفطس فعاتب الملاك الذى كانت بين يديه ولمسها بيده المباركة ومنحها ساقين رخاميتين ومؤخرة مرمرية وترك الصدر والبطن كما نحتهما الملاك”
هناك اهتمام واضح بالجسد لكنه لا يصل – كما شاع فى الكثير من الكتابات القصصية والروائية عند الأجيال الحديثة – إلى درجة ” الإيروتيكية “أو الشهوانية فالجسد مقدم على مدار هذه المجموعة بوصفه تعبيرا عن الذات فى بعدها الإنساني، ولهذا نجد تلازما بين الجسدي والروحي، فبينما تقول الساردة في القصة نفسها: فيما يعتقد الجميع أن شمس الأربعاء تشرق من جهة الشرق كانت هناك امرأة يملؤها حدس يقينى أن الشمس تشرق من قلبها وأن ما تصعد إلى كبد السماء الآن إنما هى إشراقة روحها “فالشمس تشرق من قلبها بنورها وإشراقها كما تشرق من الشرق على الكائنات جميعها”.
هذه النزعة الروحية هي التي تجمع في رؤية الساردة بين الأديان، حيث لاتفرق بين دين وآخر طبقا لرؤية ابن عربى “أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني” والذى صار قلبه حاويا مسجد المسلم وكنيسة الراهب ومعبد اليهودى لأنه يحوي دين الحب الذى يسع الجميع.
من هنا لا نجد تناقضا أن تلجأ “نجاة” المسلمة، ولنتأمل دلالة الاسم، إلى الكنيسة ساعية إلى خلاصها الروحى وأن تردد آيات القرآن الكريم وهي مجذوبة إلى الأديرة البعيدة، كما يبدو في قولها “شيء لا أعرفه يجذبني إلى الأديرة البعيدة أستعيذ بالله وأقرأ السور الثلاث التي أحفظها للصلاة: الفاتحة والمعوذتين، أتوضأ أصلي أستكين لكن ضوء السيدة الطاهرة يتراءى لي يجذبني وحنين إليها يتزايد” (ص37).
وامتدادا لهذا نلاحظ في قصة “في انتظار من قد يأتي” تردد فكرة انتظار المخلص بمعناه السياسي والاجتماعي، ويتأكد هذا المعنى من خلال الإشارة إلى ذلك “العامل” الذي يطبع “قبلة” على ظاهر كفه وباطنه بعد تناوله ثلاثة أرغفة وبجنيهين طعمية. وفي هذا السياق تأتي أسطورة ” بنيلوب ” اليونانية التي ردت خطابها بدعوى الانتهاء من نسج مابيديها، والذي كان قميص زوجها / فارسها الغائب حتى عاد إليها، وظاهرة التناص واضحة فى هذه المجموعة حين تستبدل النساء بالرجال في استدعائها لأحد الأحاديث النبوية في قولها “النساء أربع: امرأة تدري، وتدري أنها تدري، فتلك عالمة فاتبعوها ….” أو استدعاء قصة الطفل الذي صرخ “الملك عار” على عكس الجميع الذين جبنوا من الجهر بالحقيقة.
وعلى الرغم من التزام الكاتبة ببنية القصة القصيرة، وهذا بدهي، فإننا نلمح مظاهر السرد الملحمي عن طريق الثغرات الزمنية الكبيرة حين نقرأ مثلا “حوار طويل تردده منذ عام عامين عشرة آلاف”، أو “مضت أزمنة وهم فى الانتظار: غاب الزمن الذي كانت فيه الآلهة تشارك البشر حياتهم وراح الزمن الذي كان فيه الأنبياء يصلون السماء بالأرض ورحل الزمن الذي كان فيه الأولياء لأجلهم يغاث الخلق” فهذه السطور تلخص مرور أزمنة طويلة متعاقبة وهو مايمنح بعض القصص طابعا ملحميا.
بشكل عام نحن أمام ساردة تعيش في واقع مأزوم وتستشرف واقعا آخر يحقق أحلامها التي كثيرا مايتم إحباطها مما يمنح القصص طابعا دراميا على مستوى الذات والموضوع .