حمل العام 1905 م طابعا ثقافيا خاصا، فبينما أسدل الستار على المشهد الأخير من حياة الأستاذ الإمام محمد عبده الذي توفي في هذا العام، ولد المفكر والفيلسوف العربي زكي نجيب محمود، وكأن الإمام الراحل كان على موعد مع من يحمل عنه شعلة التنوير، أو كأن القدر كان رحيما بثقافتنا العربية، ولم يشاء أن يسلبها صرحا ثقافيا شامخا دون أن يمن عليها في المقابل بمشروع تنويري سيكون له أكبر الأثر على مدار عقود تالية، لا تقف عند رحيل صاحبة عن دنيانا في العقد الأخير من القرن العشرين.
ساقت الأقدار زكي نجيب محمود الذي ولد بقرية دكرنوس بمحافظة الدقهلية إلى السودان التي كانت وقتها تحت الحكم المصري، مع انتقال الأسرة، وهي مرحلة التكوين النفسي الذي أكسبته مهارة أدبية وعمقا نفسيا ونزعة لا تخلو من رومانسية على ما بين في سيرته الذاتية “قصة نفس”، بعدها عاد إلى القاهرة ليتخرج من مدرسة المعلمين قبل أن يسافر في بعثة علمية إلى انجلترا للحصول على درجة الدكتوراة في الفلسفة عام 1947م.
في أوروبا انشغل نجيب بالتنقيب في فلسفات الغرب ومنهاجياته بحثا عن أفضل الطرق للخروج بالعقل العربي من مخاضه الذي استوعب بالكاد إمكانية الاستفادة من المنجز الحضاري للآخر بفضل الأستاذ الإمام ورفاقه من التنويريين. كان الهدف هو الوصول إلى أكثر المنهاجيات مواءمة لتخليص العقل العربي من شوائب كثيرة لحقت به على مدار قرون من الجمود والرجعية.
لم يغب عن نجيب أن تراثا ثقافيا ضخما من النصوص الدينية التأسيسية، ثم أكوام من الشروح والملخصات والتفسيرات واستخلاص الأحكام وشرح أصول استنباطها، تعوق أي محاولة للإصلاح والتجديد، لكن الأدهي هو ما يعلمه يقينا بوجود أكوام أخرى من الأسطورة الدينية والعقلية الغيبية وعوالم الخرافة لا تتوانى في خلق مساحة من الاستكانة والخمول العقلي لشعوب باتت خارج دائرة التاريخ.
كان السؤال الذي يحركه: ما الذي يرفع عن عقلنا العربي والإسلامي الذي قدم ذات يوم منجزا حضاريا نستدعيه على سبيل المفاخرة بالماضي، أثقال واقع يرزح تحت وطأة الفقر والجهل والجمود والرجعية؟
في انجلترا وجد زكي نجيب محمود ضالته في الفلسفة الوضعية، التي تطورت إلى الوضعية المنطقية بعد ما لحقت بها أفكار جماعة فيينا، وهي تقوم على توحيد لغة العلم والعلوم كلها في فلسفة واحدة، وتحليل اللغة بما يحصر معاني الألفاظ في إمكانية تحققها وتمثلها في الواقع، وحصر مهمة الفلسفة في الربط ما بين اللغة والتجربة. بمعنى أوضح، تذهب الوضعية المنطقية إلى أن المعيار الوحيد للتحقق من وجود أي شيء هو قابلية إخضاعه للاختبار والتجربة، وما لا يمكن إخضاعه للتجربة العلمية يكون بلا معني ولا وجود، وعلى هذا الأساس رفض الوضعيون المناطقة كل القضايا المتعلقة بالميتافيزيقا واللاهوت باعتبارها قضايا غيبية غير خاضعة لإمكانية الاختبار والتحقق.
كان زكي نجيب محمود هو رسول الوضعيين المناطقة إلى منطقتنا العربية التي يعرف حجم احتياجها إلى نموذج منهجي يعينها على التخلص من تراث فكر أسطوري يوغل في الغيبيات، ويغرق في عوالم الجن والشياطين والكرامات والحسد،.. وغيرها.
فإذا كان الشرق بطبيعته فنانا روحيا بينما الغرب علمي تجريبي، فقد تمثل الحل في نظر زكي نجيب محفوظ في إضفاء بعض من مسحة الغرب العلمية على طبيعتنا الفنانة أو بالأحرى الروحية، فعكف على نقل أفكار الوضعيين المناطقة إلى العربية وترجمة قواعدها ومقولاتها الكبرى وشرح إمكانات تطبيقها.
وفي كتابه “نحو فلسفة علمية” أوضح كيف بات للفلسفة مهمة جديدة تختلف عن تلك المهمة المتوارثة المتعارف عليها، والتي تتمثل في محاولة الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى وكشف العلل البعيدة للأشياء، فالعلم وحده هو القادر على إجابة مثل تلك الأسئلة.
لكن طرقاته الكبرى تمثلت في كتابه “خرافة الميتافيزيقا”، وهو الكتاب الذي بدا فيه نجيب كالقطة التي أكلت بنيها، على حد تعبيره، إذا رغم أنه بدأ في كتابه بمهاجمة الكثير من الأفكار الغيبية والميثولوجيا الدينية، إلا أنه اضطر لاحقا إلى التراجع أمام هجوم جارف من تيارات دينية منغلقة سارعت إلى اتهامه بإنكار الميتافيزيقا الدينية (الغيبيات) بما فيها مفهوم الألوهية، ولم تشفع له محاولات في الدفاع عن نفسه باستثناء قضايا اللاهوت الديني من الميتافيزيقا التي يٌعمل عليها معول الوضعية المنطقية، وانتهى به الأمر إلى إعادة طباعة مؤلفه تحت مسمى “موقف من الميتافيزيقا” ليبدو أقل حدة وصدامية مع مجتمعات ألفت أن تقبع خلف أفكارها وتملأ فراغاتها بالخرافة والأساطير.
رغم ذلك ظل زكي نجيب محمود طوال السنوات التالية من عمره يدافع عن منطق التفكير العلمي، ويخوض العديد من المناظرات والمساجلات مع رموز أسهمت أفكارها بشكل أو بآخر في تشكيل الوعي العام، ولعل من أبرزها تلك المناظرة الشهيرة على صفحات جريدة “الأهرام” مع الشيخ محمد متولي الشعراوي حين دافع الأخير عن مقولة غمس الذبابة التي تسقط في الإناء أثناء الشرب، استنادا إلى رواية عن حديث نبوي يقر هذا العمل، بل أنه سعى إلى إبراز ما اعتبره من أوجه الإعجاز العلمي في الأمر، حينها كتب زكي نجيب محمود مقاله الشهير “ذبابة طاردتها” عاتبا على الشيخ الجليل مجاراته لمحاولات تبرير نص يخالف العقل والمنطق.
وبالتأكيد لم يكن ليخطر على بال زكي نجيب محمود الذي وافته المنية عام 1993 بعد ما ترك لنا عشرات المؤلفات والتراجم والتحقيقات، أننا سنلج إلى الألفية الجديدة بعقلية ملؤها الخرافة والأساطير، وأن من شيدناه من جامعات ومحافل علمية تعتمد أساسا المنهج التجريبي، مثل كليات الطب والصيدلة والعلوم وغيرها، ستنجب لنا تحت تأثيرات التيارات الدينية الرجعية من يروج للمداواة بالرقية الشرعية، وأن تتفرغ شاشات التلفاز للترويج لأسماء تنشر الدجل تحت مسمى “عالم روحاني”، لتوهم الناس أن بإمكانها فك السحر وإخراج الجان ورفع الحسد والعين الشريرة وجلب الحبيب ورد المطلقات، في حركة دائرية للتاريخ بعد نحو قرنين من انطلاق حركة النهضة والتنوير، وتحت سمع وبصر وزارات للثقافة ومؤسسات علمية راسخة تبدو عاجزة عن النهوض بدورها في تحرير عقول شعوب مستلبة أمام شاشات التلفاز مستباحة لمن يروجون لثقافة الخرافة وينشرون الجهل.
الفيديو جرافيكس