وكيف أنسى هذا المشخصاتى الفذّ وقد كنت أراه كثيرا وهو في طريقه الى التليفزيون؟ يحمل معه عادة أوراقا كثيرة، كنت أخمن أنها نصوص مسلسلات، كان ممتلئا قليلا وقصيرا الى درجة لافتة، ولكنى كنت أراه عملاقا ونجم النجوم. أحمد توفيق شخصية استثنائية بكل المقاييس، ولم يأخذ ولو جزءا مما يستحق، ممثل بارع كبير رغم أنهم كما يقولون كان مهتما أكثر بالإخراج، ولكن ماذا نفعل وقد ترك فى كل دور لعبه (بالذات فى السينما) بصمة يمكن تدريسها فى فن أداء الممثل؟
ماذا نفعل إذا كان فنانا مثل عبد الله غيث كان يقول للمخرجة رباب حسين (زوجة توفيق) إنه لا يخشى أن يقف أمام ممثل أكثر من أحمد توفيق؟ تخرّج توفيق فى معهد الفنون المسرحية فى نهاية الخمسينات، كان الأول على دفعة ذهبية هو زميلته عايدة عبد العزيز، كان من مشاهير زملائه يوسف شعبان وعزت العلايلى أبو بكر عزت ورشوان توفيق.
مع افتتاح التليفزيون أصبح توفيق من موظفيه، عينوه مديرا للاستديوهات، كان يمكن ألا تظهر قدراته كممثل لولا صلاح أبو سيف، أسند إليه دورا قصيرا فى فيلم “لا وقت للحب”، زميل مناضل يخون زملاءه، ثم قدمه شريكا فى بطولة “القاهرة 30” مع حمدي أحمد. لعب توفيق دور سالم الإخشيدى باستاذية مذهلة، كأنك بالضبط أمام ممثل ظهر في أفلام سابقة، كأنه سلم وقد خرج أمامك من الكتاب، لا تستطيع حتى اليوم أن نتخيل ممثلا آخر فى هذا الدور الصعب، لاحظ قدرته على تقديم تعبيرات متباينة فى مشهد واحد فينتقل بسلاسة من المكر الى الحقد ومن الغضب الى محاولة إخفاء أفكاره.
في “ميرامار” كان ايضا لافتا في دور على بكير الذى سيقود سرحان البحيرى الى الضياع، يتسلل بهدوء مثل شيطان أو ثعبان له فحيح، له دور قصير آخر فى “فجر الإسلام” لم يتخل فيه عن المكر، ثم يأتى دور رشدى فى فيلم “شئ من الخوف”، الشخصية مركبة للغاية، تابع عتريس الذى لا يستطيع أن يواجهه بعد أن سلبه حتى زوجته فيهرب رشدي الى الجنون.
كل شخصية يمنحها توفيق الدارس الفاهم بريقا وكيانا ( بالإضافة الى دراسته فى معهد الفنون المسرحية، درس توفيق فى كليتى الآداب والحقوق ايضا)، هو أيضا أحد رواد العوامة فى فيلم “ثرثرة على النيل”، له أيضا دور من أعظم أدواره لا يتكلم عنه أحد هو دوره فى فيلم “حافية على جسر الذهب”، منتج يعشق الممثلة عشقا صوفيا تقريبا، يقدسها ويتحمل من أجلها كل شئ، شخصية فريدة وغريبة قدمها توفيق بكل تفاصيلها، تماما مثلما قدم دوريه الهامين: حجاب المشعوذ فى فيلم “الغرقانة” لمحمد خان، والحكمدار اسماعيل فى فيلم “القبطان” للمخرج سيد سعيد.
وأدواره لا تنسى فى مسلسلات مثل دور المحامى رشاد نبيه فى حلقات “الخروج من المأزق” عن شركات توظيف الأموال، ودوره فى مسلسل “لما التعلب فات” لأسامة أنور عكاشة، ودوره فى مسلسل التشويق الأشهر “وتوالت الأحداث عاصفة”.
كان توفيق يتمتع أيضا بأخلاق رفيعة، له مواقف عظيمة معروفة، فقد وافق مثلا على أن يكمل مسلسل “السقوط فى بير سبع” الذى توفى زميلة الكبير نورالدمرداش أثنا تصويره، ورفض توفيق أن يكتب اسمه محتفظا باسم زميله كمخرج وحيد للعمل، كان يؤدى واجب الصداقة والفن لزميل عملاق. أحمد توفيق يستحق كتابا كاملا لدراسة كل أعماله فى السينما والتلفزيون، لا يعرف كثيرون أنه نقل للتليفزيون مسرحيات شهيرة مثل “سيدتى الجميلة” و”زهرة الصبار”، كثيرون لا يعلمون أنه مخرج لمسلسلات ناجحة جدا مثل ” الشاهد الوحيد” بطولة فريد شوقى وسهير البابلى، و”لن أعيش فى جلباب أبى”، والمسلسل الأخير قدم نور الشريف بشكل مختلف.
كان توفيق بارعا فى إدارة الممثلين، لا يستعرض أبدا لا بالكاميرا ولا بالإضاءة، كلاسيكى تماما فى منح الدور المحورى للشخصيات، عنايته واضحة جدا بالتفاصيل، من الواضح أنه يحلل الشخصيات ويدرسها بعناية، كنا فى حاجة الى أدوار أكثر يبدع من خلالها سينمائيا وتليفزيونيا، ولكن مجرد وجود هذه “العينات” من الأدوار تكشف لنا عن مشخصاتى من الطبقة الأولى الممتازة، فكيف سيكون الحال لو تفرغ فقط للتمثيل؟.
نقلا عن صفحة الكاتب على فيسبوك
مشهد من فيلم شيء من الخوف