قابلت فرانسوا بورغا في صنعاء عام 2002 لإجراء لقاء تلفزيوني، كنت سعيداً بلقاء هذا الاسم الفرنسي اللامع في سماء دراسات الإسلام السياسي المهموم بتقديم صورة “صحيحة” عن الإسلام للغرب، كان الحديث معه شيقاً، لكنني استغربت نبرة الإعجاب المفرطة في كلامه عن حركات الإسلام السياسي. كان يعتبر أن الحركات الأصولية هي المعبر الحقيقي عن صوت الشعوب الإسلامية. أما اليساريون والليبراليون والقوميون فهم رسل للقيم الغربية البعيدة من “روح” تلك المجتمعات.
بدا هذا واضحاً من خلال عنوان كتابه الأشهر “الإسلام السياسي…صوت الجنوب”. فحركات الدين السياسي من وجهة نظره سواء كانت خمينية او اخوانية او سلفية هي الناطق الحقيقي بأصوات العرب والمسلمين المقهورين. أما الحديث عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والفردية، فمجرد استيراد لقيم الغرب الاستعماري التي لا تنطبق على الشعوب الاخرى.
لم يبد لي بورغا ذلك اليساري الشجاع الذي تخيلته، بل مجرد مستشرق بشعارات يسارية سيشكل مع أبناء مدرسته من اليسار الأوروبي ما سمّاه صادق جلال العظم “الاستشراق المعكوس”. ولا يوجد فارق حقيقي بين الاستشراق التقليدي والاستشراق المعكوس، غير أن الأول ينظر للشعوب الشرقية باحتقار، لأنها شعوب تقليدية غارقة في الدين والخرافة وعاجزة عن تبني قيم الحداثة، بينما ينظر الاستشراق المعكوس للشعوب الشرقية بإعجاب للأسباب ذاتها، أي لأنها رافضة لقيم الحداثة والامبريالية وقيم العقل والعلم والتقدم!
عاش بورغا في اليمن في ذروة تجربتها الديمقراطية والتعددية السياسية وحرية الصحافة، لكنه لم يهتم بدراسة كل هذه الظواهر، لأنها من وجهة نظر الاستشراق اليساري المعكوس مجرد أفكار مفروضة من القوى الامبريالية. على العكس من ذلك، اهتم بدراسة “الصوت الحقيقي” لليمنيين من وجهة نظره، حركات الدين السياسي من الإخوان المسلمين إلى السلفيين إلى حركة الإحياء الزيدي التي ستتحول لاحقاً إلى الحركة المسلحة لأنصار الله الحوثيين.
من داخل هذه النظرة، لا شك في أنه كان يقابل الكثير من اليمنيين الحالمين بمجتمع ديموقراطي مدني علماني حديث. لكن اليمني الديمقراطي بالنسبة إليه يمني مزيف. أما اليمني الحقيقي والمسلم الحقيقي، فهو ذلك الذي يعبر عن مطالبه السياسية بلغة دينية: الدولة الإسلامية، الخلافة ظن تطبيق الشريعة، الجهاد…الخ.
اتضح لي أن لدينا مرضاً يسارياً جديداً، هو التحالف مع الفاشية الدينية من أجل مواجهة الامبريالية العالمية.
يمكن اعتبار الثورة الإيرانية نقطة محورية في موقف اليسار من الفاشية الدينية وحركات الدين السياسي. استطاعت الثورة الإيرانية طرد الشاه الحليف الأكبر للغرب في المنطقة ورفع شعارات عدائية ضد الولايات المتحدة والغرب ورفض كل القيم الغربية السياسية والاجتماعية.
كان اليسار يترنح والرأسمالية تصعد على وقع تعثر التجارب الاشتراكية وتضعضع المعكسر الاشتراكي. ثم جاء الانهيار الكبير للمنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي ليخلق أكبر جرح نرجسي لليسار.
تلفت اليسار يميناً ويساراً باحثاً عن نموذج يمكنه مواجهة الانتصارات المتلاحقة للرأسمالية وقيمها فلم يجد أمامه إلا الحركات الدينية. ولأن اليسار المهزوم لم يعد صاحب مشروع شمولي فقد اختصر مشروعه في هدف واحد أعمى هو مقاومة الامبريالية. وشاء له الوهم أن يرى في حركات الفاشية الدينية الصاعدة بعد فشل المشروع القومي العربي القوة الوحيدة القادرة على مواجهة الامبريالية وهزيمتها.
من هنا أتى الموقف الداعم لميشيل فوكو ليس فقط للثورة الإيرانية بل أيضاً لإجراءاتها الاجتماعية والسياسية المتخلفة. عندما كانت الخمينية تفرض ستاراً دينياً كهنوتياً على الحياة في إيران، كان اليسار الأوروبي يتجاهل الطابع القمعي الكهنوتي لهذه الاجراءات ويراها انتصاراً مظفراً ضد القيم المزيفة للغرب الاستعماري!
وعندما فرضت الخمينية الحجاب بالقوة على المرأة الإيرانية، كان اليسار الأوروبي يتجاهل النظرة الأصولية المتخلفة التي ترى في المرأة عورة ورمزاً جنسياً للفتنة والإفساد، ويرى في قرار فرض الحجاب تحريراً للمرأة من التسليع الغربي وقيم الموضة والجمال التي تدعمها الشركات الكبرى!
ليس المهم التخلف والرجعية استبدادية اللذين تقوم بهما حركات الاسلام السياسي ضد شعوبها المقهورة، المهم أن هذه الإجراءات مضادة للقيم الغربية للرجل الأبيض. أما الحداثة فلم تعد مأسورة بالنموذج الغربي الذي يربطها بالتعليم والحرية السياسية وتحرير المرأة وفصل الدين عن السياسية وترسيخ الروح الفردية، فهناك “حداثات” أخرى قد تقتل المثليين وتقطع يد السارق الفقير وترجم المتزوجة الخاطئة حتى الموت، وتفرض رأياً واحداً ومذهباً واحداً بقوة الحديد والنار وترمي بمعارضيها في السجون…
كل هذه الإجراءات ليست وحشية، إلا لأننا نقيسها بمقياس القيم الغربية للرجل الأبيض حول حقوق الإنسان. أما لو قسناها بناء على القيم المختلفة لحركات التدين السياسي فهي إجراءات طبيعية جداً، نابعة من ثقافة تلك الشعوب، وهذه هي الحرية الحقيقة من وجهة “الحداثات البديلة” لليسار الجديد.
يرى اليسار الجديد أن الحرية الحقيقية هي أن تخضع الشعوب للقيم المسيطرة داخلها. فإذا كانت هذه القيم تقتل المعارض وتضرب المرأة السافرة وتذبح المفكر المتجرئ على نقد المقدسات فالتصرف المبدئي والأخلاقي الصحيح هو دعمها والدفاع عنها.
بعد فرانسوا بورغا، قرأت ليساري آخر من يساريي الاستشراق المعكوس هو “آلان غريش”. ووجدته في كتابه “الإسلام والجمهورية والعالم” يهاجم بعنف إحدى المعارضات الإيرانيات التي خلعت الحجاب وبالمصطلحات ذاتها التي تستخدمها السلفية الدينية الإسلامية. فالمسلمة الحقيقية بالنسبة إلى تيار الاستشراق المعكوس هي المرأة المحجبة عكس “المزيفات” بشعورهن المكشوفة وتنوراتهن القصيرة وشعاراتهن النسوية. ووجدته أيضاً يدافع عن الإسلام بمصطلحات الأصولية الإسلامية ذاتها، باعتباره ديناً تقدمياً لا يحتاج إلى إصلاح وأن كل الدعوات إلى إصلاح الإسلام وبخاصة في نظرته للمرأة والحريات والحداثة، مجرد دعوات مشبوهة من نخب متغربة.
بالنسبة إلى غريش المثقف الحقيقي الذي يعبر عن تطلعات العالم الإسلامي هو طارق رمضان، أما بقية المثقفين الليبراليين واليساريين العرب فهم نخب متغربة بتهافت على الإعلام الغربي ويحاول إبرازهم لمحاربة مشروع الأصولية الإسلامية.
إلى جانب بورغا وغريش لمعت أسماء أخرى من المدرسة ذاتها مثل ايان هاليفي. تختصر هذه المدرسة العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي في نقطة واحدة هي “الاستعمار” . فالعالم الإسلامي ضحية الاستعمار الغربي الذي إلى جانب نهب مقدرات تلك الشعوب حاول نشر قيم الحرية والديموقراطية والمساواة وتحرير المرأة والعقلانية والتعددية السياسية. ولا سبيل للخلاص الكامل من الاستعمار عند بورغا وغريش وهاليفي، إلا برفض المسلمين لهذه القيم والعودة إلى قاموسهم السياسي الأصيل (الخلافة والشريعة والإمامة).
إنهم مؤمنون بقيم الديمقراطية والعلمانية والحرية، لكنهم يرونها قيماً خاصة بهم فقط ،وبحضارتهم فقط وبمجتمعهم الفرنسي الأوروبي.
لهذا كرسوا جهودهم خلال العقود الثلاثة الماضية لإقناع العرب والمسلمين بأنهم “مختلفون” وليسوا “متخلفين”، وأنهم يجب أن يرفضوا كل قيم الحداثة ويتمسكوا بقيمهم الأصيلة الموروثة مهما كان تخلفها لأنها (حداثة بديلة)؟
يشترك تيار الاستشراق المعكوس مع الأصولية الإسلامية في الإيمان بثلاثة أفكار رئيسية تحركها نظرية المؤامرة. الفكرة الأولى أن هناك مؤامرة غربية لتشويه الإسلام، وأن الإرهاب الإسلامي مجرد ترتيبات استخباراتية غربية لتشويه الإسلام وضرب المسلمين. والفكرة الثانية أن الإسلام على عكس المسيحية واليهودية لا يحتاج إلى عملية إصلاح ديني، وأن دعوات تجديد الإسلام دعوات مدعومة من النظم الغربية، والفكرة الثالثة أن سبب تخلف المسلمين خارجي وهو الاستعمار، وأنه لا توجد أسباب داخلية لتخلف المسلمين غير الاستعمار والقوى الغربية.
إن سيد قطب وحسن نصر الله وأبو مصعب الزرقاوي وطارق رمضان وحسين الحوثي وراشد الغنوشي والخميني هم الأبطال المستقلون الذين يحتفي بهم تيار الاستشراق المعكوس، أما بورقيبة واتاتورك وطه حسين ومحمد عبده ورموز التجديد الحداثي والليبرالي فهم مجرد وكلاء استعماريين لقيم الامبريالية التي يجب أن يتحالف اليسار مع الفاشية الإسلامية لتجفيف منابعها في العالم الإسلامي.
عند هذه النقطة يلتقي اليسار الأوروبي (الفرنسي بخاصة)، مع أسوأ طروحات الفاشية الدينية. فالصوت الحقيقي “للجنوب” هو صوت الفاشية الدينية المنادي بالحكم بالحق الإلهي وتطبيق الشريعة وحجب المرأة، أما العربي أو المسلم المنادي بالليبرالية والعلمانية والديمقراطية، فهو الوجه المزيف الذي يجب التطهر منه، لأن تحرر الشعوب الإسلامية من الاستعمار الثقافي سيبدأ حين تصل الفاشية الدينية إلى كراسي الحكم، وعندها سيجد اليسار حليفه القوي لتأديب الصلف الغربي الإمبريالي!
نقلا عن موقع daraj