قبل قرنين من الزمان بدأ محمد علي مشروعه السياسي وفي عام 1816 بالتحديد شرع في تنفيذ استراتيجيته في التصنيع. لكن معاهدة لندن عام 1840 قضت عليها، ثم أجهز الاحتلال البريطاني على البقية الباقية. وفي عام 1907 كتب اللورد كرومر تقريراً يتباهى فيه بدوره في زيادة أعداد رواد المقاهي من المصريين، وإفساد ذوق الصانع المصري.
اللورد كرومر
لكن وقبل قرن من الزمان وبالتحديد عام 1916، وبسبب انقطاع الواردات خلال الحرب العالمية الأولى وحاجة الإنجليز لدعم جيشهم، صدر قرار من رئيس الوزراء المصرى حسين باشا رشدي، بإنشاء «لجنة التجارة والصناعة»، برئاسة إسماعيل صدقي باشا، ضمت سدني ويلز المدير العام لإدارة التعليم الفني والصناعي والتجاري، نائباً للرئيس وطلعت حرب وأربعة آخرين.اقترحت اللجنة «تعديل نظام الجمارك، وفتح مدارس صناعية، وإعفاء الصناعات من الضرائب، والتوسع في خفض أجور النقل بالسكك الحديدية، ومنح التسهيلات الخاصة لنقل المصنوعات المعدة للتصدير والاستهلاك المحلى ومنح الأفضلية للمناقصات الحكومية للحاصلات والمصنوعات المصرية مادامت الأسعار مناسبة. كما اقترحت منح إعانات بشروط ميسرة لبعض المشروعات الصناعية وتقديم القروض لإنشاء بعض الصناعات أوتحسينها والتوسع في منح المساعدات المالية للمشروعات ذات المنفعة العامة المفيدة للصناعات المصرية، وإنشاء معهد للأبحاث الصناعية، ومعمل فني لإجراء التجارب وعمل الأبحاث العلمية وإقامة المعارض والمتاحف التجارية والصناعية».
حسين باشا رشدي إسماعيل صدقي باشا
طلعت حرب وحلم الصناعة المصرية
صادفت الدعوة لتأسيس صناعة مصرية ناهضة عقيدة لدى طلعت حرب، الذي سبق وكتب مقالا عام 1907، طالب فيه بصناعة مصرية، والذي نشر كتاباً بعنوان «علاج مصر الاقتصادي وإنشاء بنك للمصريين» عام 1911. استغل حرب تلك الفرصة مع قيام ثورة 1919، فقام بتأسيس بنك مصر في عام 1920، لتجميع المدخرات لإصلاح الخلل الاقتصادي بإنشاء قطاع صناعي، لا يرتبط بالأموال الأجنبية أو الاستغلال الخارجي. وقد قام هذا البنك بتأسيس عدة شركات مساهمة مصرية، أرسى بها أساس الصناعة المصرية، وساعد على تشغيل الآلاف من العمال، وتحقيق التوازن بين قوى الإنتاج الزراعي والصناعي. وفي عام 1929 تقدم طلعت حرب بتقرير مفصل إلى وزير المالية، بعنوان «إنشاء الصناعات الأهلية وتنظيم التسليف الصناعي ومشروع بنك صناعي مصري».
طلعت حرب
لكن في عام 1939 وبسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، ولأن بريطانيا كانت تدرك احتياجها لصناعة مصرية وقت الحرب، وفي نفس الوقت لا ترغب في اتجاه عائداتها لطلعت حرب، وما سيترتب عليه من طفرة صناعية واستقلال الاقتصادي، فقد فضلت عليه المتعاونين معها أمثال أحمد عبود وحافظ عفيفي وإسماعيل صدقي. فتآمرت عليه وأجبرته على التنحي عن رئاسة بنك مصر.
ورغم الجهد الوطني الكبير الذي قام به طلعت حرب عقب ثورة 1919، إلا أن ذلك لم ينعكس على مستوى معيشة المواطن المصري، فقد انخفض المتوسط السنوي لدخل الفرد في مصر من 21 جنيه في سنة 1921 /1922 إلى 9 جنيهات سنويا في سنة 1940/1941 – أي بعد عشرين سنة من ثورة 19- حسب ما جاء في تقرير لجنة المالية بمجلس النواب عن مشروع الميزانية.
ويقول محمد على علوبة باشا عضو اللجنة المركزية للوفد في ثورة 19، الذي أورد ذلك في كتابه «في مبادئ السياسة المصرية»: «نحن على أبواب خطر داهم، فالمصريون يتكاثرون، وأراضينا الزراعية ضاقت بنا، ومستوى المعيشة يهبط من سنة إلى أخرى».
محمد على علوبة باشا
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية
وعلى غرار لجنة الصناعة والتجارة التي تشكلت عام 1916، تشكلت لجنة عام 1945 عُهد إليها باستقصاء حال الصناعة المصرية واتخاذ التدابير الواجبة لدعم هذه الصناعة وتنميتها وبحث الوسائل التي تكفل الاحتفاظ بالصناعات التي دعت ظروف الحرب إلى قيامها ويُخشى تلاشيها مع تلاشي هذه الظروف.
وقد طالبت اللجنة بضرورة إنشاء مجلس أعلى للصناعة والتجارة وذلك لمسايرة التطور الصناعي، ولوضع سياسة صناعية دائمة قائمة على أساس التعاون بين الجهات الحكومية وبين أصحاب الصناعات ورجال الأعمال، وأوصت بإنشاء مجلس للبحوث العلمية والفنية يمد الصناعة بالخبرة اللازمة لها، وبتدريب الشباب في المدارس الفنية والتوسع في البعثات العلمية، ورفع مستوى الكفاية الإنتاجية للعمال.
كذلك طالبت اللجنة في تقريرها بضرورة إيجاد بنك صناعي ليكون سنداً قويا للصناعات القائمة وتوجيهها، ووضع تشريع يحمي جمهور المستهلكين ويضمن الرقابة على المصنوعات منعا للغش وحمايةً للإنتاج. كما طالبت بالاهتمام بالصناعات الريفية والصناعات الصغيرة.
ثورة يوليو.. قرارات ومشروعات
وقد ظلت الصناعة حتى عام 1952 تتسم بالتخلف، وارتفاع نسبة عدد المشروعات الصغيرة مقارنة بعدد المشروعات الصناعية، إلى جانب تفضيل الرأسمالية توجيه جانب كبير من أرباحها إلى القطاع العقاري. فلم تدخل مصر عصر الانطلاق الصناعي كما يقول الدكتور علي الجريتلي، لعدم ظهور فئة كبيرة من أرباب الأعمال تتولى التنظيم والتجديد في الصناعة، وانشغال الكثيرين من أصحاب الأعمال بتجارة المحاصيل في الداخل أو تجارة الاستيراد، فضلا عن عجز مصر عن حماية الصناعة المحلية من الواردات الأوروبية الرخيصة لارتباطها بسياسة الباب المفتوح.
حتى جاءت ثورة يوليو فأخذ قادتها بنصيحة الأمم المتحدة، فأنشأوا «المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي» في أكتوبر 1952 – بعد شهر واحد من إصدار قانون الإصلاح الزراعي كهيئة مستقلة يرأسها رئيس الوزراء وتضم الوزراء المعنيين بمشاريع التنمية وبعض الفنيين ورجال الأعمال غير المدفوعين بمصالح خاصة. ومنحوه عاما يدرس خلاله مشاريع وفيرة الإنتاج ومنخفضة التكلفة ومرتفعة الأهمية للاقتصاد القومي، مع إعطاء أولوية لتوفير البترول والسكر والمنتجات الحيوانية والأسمدة والقمح، ويصوغ برنامجا يكفل تنفيذها على مراحل سنوية لا تتجاوز ثلاث سنوات، تحت إشرافه ودون تقيد بالروتين، وغلبت عليه مشاركة القطاعين العام والخاص، إضافة للمصانع الحربية. ورغم مطالبة الجهات المختلفة بدراسة قضايا التنمية على مدى خمسة أعوام، فقد ظهرت معالم تَعارُض العمل بنظام المشروعات مع متطلبات التوازن السنوي. فنص الإعلان الدستوري في 1953على تشكيل مؤتمر من بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة والوزراء لإعداد السياسة العامة للدولة في الشئون الاجتماعية والاقتصادية. وتقوم خلال سنة بوضع خطة عامة للنهوض الاجتماعي والاقتصادي، ذات أجل محدود ومعالم واضحة تبين فيها الوسائل اللازمة لتنفيذها. وتلا ذلك إنشاء «المجلس الدائم للخدمات العامة» في 17/10/1953 ليُشرف على الأنشطة المختلفة في المجال الاجتماعي، مثل بناء المدارس والوحدات الصحية.
إنشاء وزارة للصناعة
ورغم أن الثورة قدمت تسهيلا بقانون رأس المال الأجنبي، وأفسحت المجال للقطاع الخاص، فقد ظل الإقبال على المشروعات الصناعية ضعيفا. ولذلك تقرر في عام 1956 إنشاء وزارة للصناعة قامت بوضع برنامج خمس سنوات للتصنيع، وتم في 1957 إنشاء المؤسسة الاقتصادية لإدارة الشركات والمنشآت التي ُمِصّرت عقب العدوان الثلاثي. وفى عام 1957 صدر قرار بإنشاء المجلس الأعلى للتخطيط القومي يختص بتحديد الأهداف الاقتصادية والاجتماعية وتقسيم مراحل الخطة إلى خطط سنوية. وبناء عليه أدمج فيه مجلس الإنتاج والخدمات، مستفيدة بما تجمع لديهم من خبرات، خاصة من إيفادهم إلى بلدان مارست التخطيط بأشكال مختلفة. ثم صدرت الخطة الخمسية الأولى 1960-1965. والتي تضمنت تنمية صناعية غير مسبوقة، توطنت على أسس علمية على أساس توفر المواد الخام، والقوى المحركة، والقوى العاملة، ووسائل النقل، والقرب من الميناء، والأسواق.
ولتوضيح دور التخطيط لصناعات أساسية، نضرب مثلا بصناعة الحديد والصلب – التي كانت حلما منذ بناء خزان أسوان عام 1932- تحقق بمجمع صناعي ضخم على 650 فدان، أُنشيء من أجله خطان للسكة الحديد وكوبري على النيل يمر عليه لنقل خام الحديد من أسوان ومن الواحات البحرية، وتعميق ترعة النوبارية وتحويلها من ترعة للري إلى مجرى ملاحي لنقل الفحم من ميناء الاسكندرية إلى حلوان، ومعهد التبين العالي لتدريب المهندسين والفنيين.
مؤامرات أجنبية
وتظهر وثائق قصر عابدين، مذكرة كتبها للملك فاروق، محمد صادق فهمي رئيس رابطة مصر أوروبا في أبريل عام 1949 يذكر فيها: أنه أتيحت له فرصة الاتصال بخبير فرنسي في صناعة الحديد، كان أحد أعضاء لجنة الخبراء التي استقدمتها الحكومة، لبحث مشروع استغلال خام الحديد المصري. والذي فهم منه أن الخبراء الأجانب كانوا مختلفين في وجهة نظرهم تبعا للسياسة التي تمليها عليها مصالح بلادهم. فالخبير الإنجليزي كان صريحا في مناهضة المشروع، حتى أنه اتهم زميله الفرنسي بالغفلة عندما رآه مهتما بعمل التجارب، وقال له «هل نسيت ما ينشأ عن قيام صناعة الحديد الثقيلة هنا من أثر في مصانع الغرب؟»، أما الخبيران الأمريكيان فقد كانا يتجهان نحو وضع مشروع ضخم الإنتاج ليكون ضخم التكاليف، لا تقوى على تنفيذه سوى شركات أمريكية كبرى، بينما الخبير السويدي وقف على الحياد وكتم رأيه. ويضيف فهمي أن الخبير الفرنسي قدم مشروعه ولكنه سافر ضعيف الأمل في وجود إرادة لتنفيذ المشروع.
صحيح أنه كانت هناك منذ عام 1948 محاولات لصناعة الحديد والصلب، حيث أُنشئت ثلاث شركات هي: مصانع النحاس المصرية، ومصانع الدلتا للصلب، والشركة الأهلية للصناعات المعدنية. لكن هذه الشركات قامت عملياتها على الحديد الخردة وليس على الحديد الخام. أما أول مشروع متكامل قامت عملياته على الحديد الخام فقد بدأت إنشاءاته عام 1956 وهي شركة الحديد والصلب المصرية، التي بدأت الإنتاج عام 1958 واكتمل تشغيل وحداتها عام 1960.
كذلك مصنع النصر للسيارات، والذي يعد مثالاً لعلاقة الصناعات الصغيرة بصناعة كبيرة تقوم عليها، فقد كانت تغذي هذا المصنع 200 صناعة صغيرة. وقد توطن هذا المصنع في منطقة وادي حوف بجوار مصدر أساسي للمادة الخام تمثل في مصنع الحديد والصلب بالتبين ومصنع المطروقات وقد كان تركز المصانع الحربية في حلوان أحد العوامل الرئيسية التي لعبت دورا أساسياً في توطين المصنع هناك حيث كانت تضم كثيرا من الصناعات المغذية.
كذلك أقيم مجمع الألومنيوم بنجع حمادي على قطعة من صحراء الهو بعيد عن الأرض الزراعية وتقترب من محطة تحويل كهرباء السد العالي الأمر الذي سهل توصيل الكهرباء للمجمع. وتكلف المجمع ببعض الاستثمارات المكملة له فقد أنشأ منطقة سكنية لعماله وموظفيه تقع على ربوة عالية وتطل على الأرض الزراعية. ورصف الطريق بينه وبين المنطقة الزراعية، وحفر المصنع بعض الآبار لتوفير المياه اللازمة له، وأنشأ ميناء نهرياً على النيل في المنطقة المقابلة له، وأقام مركز تدريب للعمال.
ومصنع المراجل البخارية الذي كان ينتج غلايات الضغط العالي، والتي تحتاجها المصانع ومحطات توليد الكهرباء ومحطات الطاقة النووية، والمقام على 31 فدان على الضفة الأخرى من نيل المعادي. والذي تمت خصخصته في صفقة فاسدة، ألغاها القضاء الإداري ولكن وبكل أسف بعد أن تم تخريب المصنع لبيع الأرض المقام عليها.
وهكذا دار الزمن دورته الثالثة للنيل من الصناعات الوطنية التي تم بناؤها بعد تاريخ طويل من الكفاح الوطني من أجل إنشائها. ففي السبعينيات تم إهمال الصيانة والإحلال والتجديد تمهيداً للإجهاز على القطاع العام، وقد تزامن ذلك مع السقوط في فخ الدين الخارجي الذي ارتفع من نحو 1.5 مليار دولار عام 1970 إلى نحو 23.5 مليار دولار عام 1981 مما أدى إلى الذهاب إلى صندوق النقد الدولي عام 1991 والخضوع لبرنامج الخصخصة الذي أدى إلى القضاء على التجربة الثالثة للتصنيع في مصر.
رائع لكن صوره علي الجريتلي ليست هذه وانما تلك صوره المفكر اللبناني نديم البيطار