رؤى

صفحة من تاريخ مصر (3-4).. حوارات مع شخصيات عاصرت ثورة الشباب 1935

بعد أن قدمنا في الجزء الأول تفاصيل ثورة الشباب عام 1935، نستعرض الآن حوارات أجريتها عام 1988مع شخصيات تاريخية قادت أو عاصرت الثورة.

2 – حوار مع المهندس إبراهيم شكري

المهندس إبراهيم شكري ينتمي إلى عائلة من كبار الملاك في الدقهلية، ووالده محمود باشا شكري وكان وزيراً في العهد الملكي، ومع ذلك كان له نشاط ثوري. فقد انتمى لجمعية مصر الفتاة، وشارك في مظاهرات 1935، وأصيب فيها ونقل للمستشفى. وانتخب في برلمان1950 وكان يمثل الحزب الاشتراكي (مصر الفتاة سابقاً) وتقدم في نفس العام بقانون للإصلاح الزراعي ورفض كسابقه الذي قدمه محمد بك خطاب للبرلمان أيضاً عام 1945. كان أمين الاتحاد الاشتراكي في محافظة الدقهلية في الستينات ووزيراً للزراعة في السبعينات، ثم استقال وأسس حزب العمل الاشتراكي وجريدة الشعب الناطقة بلسان الحزب.

س   ما هو دور مصر الفتاة في انطلاق ثورة 1935؟ وما هو دور الأحزاب الأخرى؟

ج    مصر الفتاة في ذلك الوقت كانت جمعية، وكانت حركة قومية للشباب، وليست حزباً. حيث كان الشباب قد تكشفت له ألاعيب الأحزاب من أجل الوصول إلى الحكم. فبعض الأحزاب تطالب بالدستور والبعض الآخر يطالب بالاستقلال أولاً، لكنها لا تعدو كونها شعارات لا تعني ما تقول. ومن جهة أخرى كانت هناك وزارة نسيم باشا غير الحزبية، وقد ألغت دستور 1930 المكروه من الشغب، لكنها لم تحل محله دستوراً آخر، وكانت تأخذ الأوامر في ذلك من الانجليز وقد كشف ذلك الأمر “تصريح هور” وزبر خارجية بريطانيا.

المهم أن هذه الأمور شجعت كثيراً انتشار مصر الفتاة وسيطر شعارها على ما عداه من الشعارات الحزبية في مظاهرات وهو “مصر فوق الجميه”. لا أقول أن مصر الفتاه هي التي انفردت بحركة الطلبة في سنة 1935، فقد كان هناك الشياب من كافة الأحزاب لكن روح مصر الفتاة وشعارات مصر الفتاة هي التي هيمنت. وأيضا أعضاء مصر الفتاة كانوا أبرز المشاركين.

وأذكر منهم على سبيل المثال: حمادة الناحل وعبد المنعم الشرقاوي وحنا نيروز من الحقوق ودكتور عبد الرحمن بدوي من الآداب ومن الهندسة مشهور أحمد مشهور وسمير حلمي ومن الأزهر عبد المنعم النمر ومن الزراعة محمود مكي وكمال سعد ويحيى مصطفى ومحمد نصار، ويوسف مراد وحسين حمدي سالم، كذلك جمال الشرقاوي وسعد عطية الشقيق الأكبر لممدوح عطية وزير العدل ومن الطب الدكتور نور الدين طراف.

نور الدين طراف
نور الدين طراف

س   من المعروف أنك كنت من المصابين في مظاهرات ذلك اليوم المشهود 14 نوفمبر فهل يمكن أن تحكي لنا ذكرياتكم عن يومي 13 و14 نوفمبر 1935.

ج    نبدأ بيوم 13 نوفمبر حيث أن ذلك اليوم كانت مصر تحتفل به، وهو اليوم الذي فيه سعد زغلول وزملاؤه إلى المندوب السامي البريطاني لطلب الاستغلال والدستور كما هو معروف وكان يسمى “يوم الجهاد”. وكان وزير خارجية بريطانيا صمويل هور قد صرح قبل أيام من 13 نوفمبر بما أن الإنجليز غير موافقين على عودة الدستور في ذلك الوقت، وأن الوقت غير مناسب لإجراء مفاوضات الاستقلال.، فكان ذلك دافعا لخروج المظاهرات في ذلك اليوم. فخرجت الجامعة في مظاهرة هدفها الاتجاه نحو عابدين، وعند كبري قصر النيل بدأ الصدام بيننا وبين البوليس بقيادة ضباط وكنوسبلات إنجليز فاستعملوا الهراوات وإطلاق الرصاص (الفشنك) من ثكنات قصر النيل التي أقيم مكانها فيما بعد مبنى الجامعة العربية وأنا كنت في الناحية المقابلة حيث وزارة الخارجية الآن، وحيث توجد فيلا أمامها لقوت القلوب الدمرداشيه، وقد اعتدى جنود الشرطة بالهراوات ، فسقطت على إثرها على الأرض، فحملني زميلاي حسين حمدي سالم ويوسف مراد، إلى طبيب أسرتنا الدكتور محمد عبد الحميد، وكان مدير مستشفى الملك في ذلك الوقت. وكنت أشعر ألم شديد في كتفي، لكنه قال لي أنها بعض الرضوض، ويلزمك شيء من الرحة وأن تربط كتفك، ونصح ببعض الأدوية الملطفة. لكنني في الساعة الرابعة بعد الظهر توجهت إلى قصر لطف الله، الذي يوجد مكانه الآن فندق ماريوت، حيث موعد المؤتمر الذي دعت إليه مصر الفتاه للاحتفال بعيد الجهاد. لكن البوليس قام بمنع المؤتمر واقتاد الأستاذ أحمد حسين ومجموعة من لابسي القمصان الخضراء أعضاء مصر الفتاة، إلى قسم بولاق، فعدت للمنزل وأنا أشعر بإعياء شديد.

وفي يوم 14 نوفمبر، ذهبت إلى كلية الزراعة متأخراً فوجدت الدراسة تسير على نحو معتاد. فجرينا أنا وعدد قليل من زملائي من بينهم عزت هبد الوهاب (وفدي) إلى الجامعة، حيث كان حشد كبير، وحيث كان الخطباء يتوالون احتجاجاً على ما تم في اليوم السابق من قتل عامل وجرح طالب أثناء الاحتفال بيوم الجهاد، ثم كانت الدعوة إلى مظاهرة تسير في الاتجاه الآخر هذه المرة عن طريق كوبري عباس. فمررنا بكلية الهندسة وكلية الزرعة والسعيدية الثانوية، فخرج الطلاب معنا. وفي كلية الزراعة كان يوجد بها قصبان من الحديد وعروق من الخشب، فتسلح بها الطلاب وتسلحت أنا بسيخ من الحديد للدفاع عن النفس. ومررنا أنا وبعض زملائي إلى الأمام لتشجيع الطلاب على مواجهة الشرطة. وفعلاً أمكننا تجاوز نطاق الشرطة حتى موقع العمارة التي في الركن الأيمن من الكوبري، حيث يوجد مكانها فيلا في ذلك الوقت، والتفت إلى الوراء فوجدتني وراء نطاق الشرطة، ووجدت ضابط انجليزي ومجموعة من الكونستابلات وقد رفعوا مسدساتهم في مواجهة الطلبة، فوجدتني أندفع لأضرب أحدهم بسيخ الحديد على رأسه ، فاستدار أحدهم وأطلق على الرصاص فوقعت على الأرض، حيث قيل لي بعد ذلك أنني درت حول نفسي عدة دورات قيل ذلك فسقطت بالقرب من طالب آخر، فأخذت أزحف حتى وصلت إليه، وهو الشهيد محمد عبد المجيد مرسي. وقد كان في حالة سيئة جداً، حتى أن أحد الكونستابلات حاول أن يضربني بالرصاص مرة أخرى، حالة عبد المجيد مرسي الملقى على الأرض إلى جواري منعته من ذلك.

المدرسة السعيدية زمان
المدرسة السعيدية

بعد ذلك حملوا عبد المجيد مرسي وأنا وطالب آخر أظنه عبد القادر زيادة على عربة كارو سارت بنا في شارع المنيل ثم نقلونا بسيارة أحد الطلبة إلى مستشفى قصر العيني حيث شخصت حالتي بأنها رصاصة في أعلى الفخذ، ثم بعد فترة طلب والدي أن أنقل إلى المنزل. وبعد حوالي شهر ونصف توجهت إلى مقر الحزب في العتبة الخضراء في ذلك الوقت.

    س   ما هي ظروف انخراطكم في جمعية مصر الفتاة؟ ولماذا اخترتموها من بينما عداها من أحزاب في ذلك الوقت؟

    ج    في البداية ترفت على مشروع القرش عن طريق ابن عم لي، فاشتريت بعض الطوابع وشاركت في توزيعها. بعد ذلك اطلعت على مجلة الصرخة فوجدت أن ما يكتب فيها يعبر عن مشاعري وأفكاري. وتصادف أنني أسكن في منشية البكري، وكان لي صديق اسمه صلاح مقيم بمنشية الصدر وهو ابن الكاتب الأستاذ محمد الهيهياوي (حزب وطني)، وكان عنده مجموعة كاملة لمجلة الصرخة، فتسنى لي قراءتها. بعد ذلك عندما دخلت كلية الزراعة، تعرفت على كثير من الشباب المنضم لمصر الفتاة مثل: محمود مكي ومحمد نصار وكمال سعد ويوسف مراد وحسين حمدي سالم، وكونا لجنة قوية لمصر الفتاة في كلية الزراعة. كما أنه مما ساعد على جريتي في الاختيار أن والدي لم تكن له صلة بأحزاب.

س   يقول عبد العظيم رمضان أنه في حين كانت الثورة عل أشدها، فجأة غادر الأستاذان أحمد حسين وفتحي رضوان إلى أوروبا من أجل الدعوة السلمية للقضية. ألا ترون في ذلك تناقضاً؟

ج    لا أجد في ذلك تناقض فالنظام البريطاني نظام برلماني، وتوجيه الرأي العام الإنجليزي مفيد في التأثير على السياسة البريطانية، وهذا لا يتعارض مع النشاط الثوري لمصر الفتاة.

عبد العظيم رمضان
عبد العظيم رمضان

س    اتهمت مصر الفتاة بقفزاتها الفكرية الواسعة. فقد رفضت الحزبية في بادئ الأمر، ثم تحولت سنة 1937 إلى حزب مصر الفتاة، ثم تحولت إلى الحزب الوطني الإسلامي سنة 1940، تم الحزب الاشتراكي عام 1949؟

ج    الواقع أنك لو اطلعت على المبادئ لجمعية مصر الفتاة الأساسية، ستجد أنها كانت تحكم حركتنا منذ كانت جمعية مصر الفتاة وحتى حزب مصر الاشتراكي. في البداية انطلقنا من رفضنا للحزبية، ولكن بعد 1936 اضطرتنا الظروف إلى النزول كحزب وأما فترة الحزب الوطني الإسلامي فقد كانت محاولة للاعتماد على الدعوة الأخلاقية لكننا وجدنا أنها غير كافية وحدها، وأيضاً بسبب تطورات ما بعد تطورات الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها الداخلية والخارجية. كل ذلك دفعنا إلى برنامج مصر الاشتراكي سنة 1949. وقد حاولنا أن نصدر جريدة باسم الاشتراكية في بادئ الأمر فلم يصرحوا لنا، فأصدرنا جريدة الشعب الجديد تمييزاً لها عن جريدة الشعب التي كان يصدرها إسماعيل صدقي. وكنا نكتب الاسم بالخط الصغير، وتحتها لسن حال الاشتراكية، مع إبراز الاشتراكية بالخط الكبير. كذلك أصدرنا مصر الفتاة لسان حال الاشتراكية بنفس الأسلوب. ثم أخيراً أصدرنا جريدة الاشتراكي. فأصبح لنا ثلاث جرائد تبرز الاشتراكية تصدر أسبوعياً.

 س   على ذكر الحزب الاشتراكي، ألا ترون معي أن هناك مفارقة تحتاج إلى توضيح، كونكم نائب رئيس الحزب الاشتراكي، بل النائب الذي تقدم للبرلمان بمشروع للإصلاح الزراعي عام 1950، وأنتم ابن باشا ثري ووزير سابق ورجل أعمال ومن كبار ملاك الأرضي الزراعية، بل ومن بين المناصب التي تولاها ناظر الخاصة الملكية؟

ج   هذا صحيح، ولكن الدافع الديني لدي هو الذي حل هذا التناقض، فجعلني أنشد العدالة والخير والمجتمع المثالي، وأذكر أنني في أغسطس 1935، اشتركت في رحلة سياحية نظمتها جريدة الأهرام إلى أوروبا، وكنت قبل هذه أنوي الالتحاق بكلية الهندسة فلما شاهدت تقدم الريف الأوروبي، عدت وأنا راغب في الالتحاق بكلية الزراعة، حيث أن الزراعي الإنتاج الرئيسي في مصر، وأن ريف مصر في حاجة إلى كل جهد من أجل تقدم وخير مصر. وعندما أخبرت والدي برغبتي في دخول كلية الزراعة، رحب بذلك على اعتبار أن تخصص أحد أبنائه مهندساً زراعياً يكفل رعاية أملاكه، غير مدرك لحقيقة دوافعي. ومع الزمن أدركت أن الجهد الفردي مهما يكن خيراً وعريضاً، لا يغني عن الجهد العام، ومن هنا كان إيماني بالعدالة الاجتماعية وبالاشتراكية التعبير المعاصر عنها.

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر

س   شارك الرئيس جمال عبد الناصر وعدد كبير من الضباط الأحرار في مظاهرات 1935 وهم طلاب في المرحلة الثانوية، واشتركوا في مصر الفتاة، بل وتبنت الثورة برنامج الحزب الاشتراكي، بما فيها قانون الإصلاح الزراعي الذي تقدمتم به للبرلمان عام 50، ومع ذلك اختفى ذكر أحمد حسين وزملائه بعد الثورة. ما تفسيركم لذلك؟

ج   في الحقيقة نحن هيئنا للثورة حتى أصبحت ثمرة ناضجة كادت أنتسقط وحدها.  فعنوان ” الثورة.. الثورة. الثورة” تصدر صحفنا وقد اتهم الأستاذ أحمد حسين بالتحريض على حريق القاهرة، ضمن ما وجه له من اتهام. ولكن هناك أكثر من سبب لهذا الغياب. منها أسباب ذاتية، كأن يرغب جمال سالم مثلا في نسبة قانون الإصلاح الزراعي إليه، وكان عبد العزيز سالم وزيراً للزراعة وقتها، يأتي إليه بقريبه سيد مرعي وبالعلايلي، وليس معقولا أن يأنوا بإبراهيم شكري، فصعب نسبة العمل إليه.. وسبب آخر وهو أن الظروف وقتها كانت تستوجب مراعاة العلاقة مع الأمريكان، وكان الأمريكان يكرهون أحمد حسين لموقفه منهم ولدعوته للاشتراكية. لذا فعندما صدر قانون العفو الشامل عن جميع الجرائم السياسية، صيغ بحيث تخرج قضية التحريض على حرق القاهرة من دائرة تطبيقه، وظل أحمد حسين في السجن حتى أول نوفمبر 1952.

حسني كحلة

باحث في الاقتصاد السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock