منوعات

ثورات السادات.. أولها مايو وآخرها سبتمبر

كان الرئيس أنور السادات يعشق إطلاق الثورات، وهي هواية راح يمارسها طوال فترة رئاسته خلفاً للرئيس جمال عبد الناصر، كانت عُقدته أنه لم يكن من أصحاب الأدوار المهمة المؤثرة في انطلاقة ومسيرة ثورة 23 يوليو سنة 1952، حتى في ليلة الثورة الحاسمة ـ وحسب روايته ـ فقد جاء السادات متأخراً بعد أن نجحت أولى وأهم خطوات الثورة في الاستيلاء على مبني قيادة الجيش، ووقف على سور المبنى ينادي بأعلى صوته الجهوري على عبد الحكيم عامر حين رآه يتفقد الأحوال في فناء مبنى هيئة أركان الجيش بعد الاستيلاء عليه والقبض على من فيه من قيادات.

ثم بعد أن اختير عضواً بمجلس قيادة الثورة الذي تشكل عقب نجاحها صار صوت أنور السادات بالمجلس في جيب جمال عبد الناصر ـ على حسب روايته ـ التي رواها في أكثر من مناسبة، وسجلها في كتابه الأول عن الثورة في بداياتها، وبينما تقلد كل زملائه في مجلس القيادة العديد من المناصب التنفيذية المهمة، لم يتقلد السادات أي منصب تنفيذي طوال فترة حكم جمال عبد الناصر.

خطاب السادات بعد الاستفتاء عليه خلفا لجمال عبد الناصر

كانت ثورته الأولى بعد سبعة أشهر من خلافته للرئيس جمال عبد الناصر، وهي الثورة التي أطاح فيها وتخلص من كل الذين جاءوا به في موقع الرئيس في 14 أكتوبر 1970، ولم يكن قد مضي غير بضعة أشهر، وبالتحديد في مايو سنة 1971، واتخذ السادات من هذا التاريخ مناسبة للاحتفال السنوي بانتصاره على من أسماهم «مراكز القوى»، واعتبره بداية لمرحلة جديدة أطلق عليها في البداية اسم «حركة التصحيح»، ثم ركبته هواية اطلاق الثورات فارتفع بمستواها من «حركة تصحيح» إلى «ثورة التصحيح» ثم رفعها من مجرد ثورة قامت لتصحيح مسار «ثورة 23 يوليو» إلى ثورة مستقلة سماها «ثورة 15 مايو».

وكما بدأ رئاسته بثورة أنهاها بثورة أخرى، فكانت آخر ثوراته تلك التي فجّرها في خطابه إلى الأمة في يوم 5 سبتمبر سنة 1981، وأطلق عليها إعلامه وصحافيوه اسم «ثورة سبتمبر»، وهي تعد أقصر الثورات عمراً في التاريخ، فقد اندلعت أولى شراراتها ليل الثالث من سبتمبر، وانتهت بعد شهر واحد من انطلاقتها ظهر يوم السادس من أكتوبر من نفس السنة، حيث اغتالت مجموعة من المنتمين إلى التيار الإسلامي قائد «ثورة سبتمبر» أثناء متابعته للعرض العسكري الذي نُظم بمناسبة الاحتفال بالعيد الثامن لنصر أكتوبر سنة 1973.

جزء من خطاب السادات في سبتمبر 1981

بين الثورتين الأولى والأخيرة كانت هناك ثورات عدة، أطلقها السادات بمعدل كل ثلاث سنوات ثورة، فهو صاحب «الثورة الإدارية» منتصف السبعينيات، ثم هو صاحب «الثورة الخضراء» التي أطلقها بعد جولة استمرت ثلاثة أيام في الوادي الجديد بدأت في أول ابريل سنة 1978 لرؤية الأراضي الصالحة للزراعة على الطبيعة بواسطة الطائرة من جنوب مركز باريس إلى خور توشكى، وانتهت جولة الأول من إبريل بتصريحات السادات لوسائل الإعلام، التي أعلن خلالها انطلاقة «الثورة الخضراء» التي تستهدف استغلال الأراضي الصالحة للزراعة في هذه المنطقة والتي يبلغ اجماليها 3.5 مليون فدان، وكانت تلك واحدة من أكاذيب أول إبريل المعهودة.

ولكن بقيت « ثورة مايو» هي الثورة الأثيرة لدى السادات، وقد راح بعدها يعيد كتابة التاريخ من جديد، ويربط كل الأحداث التاريخية بما يسميه تاريخه النضالي، حتى ثورة يوليو سنة 1952 التي استقر المؤرخون على أنها بدأت بتشكيل حركة «الضباط الأحرار» في نهاية سنة 1949، لكن الرئيس السادات راح يؤكد في أحاديثه الصحفية والتليفزيونية على أن الإعداد للثورة كان قد بدأ مع بدء مشاركته في النضال الوطني عام 1942، وذكر أكثر من مرة أنه هو المؤسس الحقيقي والأول لحركة الضباط الأحرار في ذلك العام، وأن «جمال عبدالناصر» حل محله في قيادة الثورة بعد أن ألقى البوليس القبض على السادات، وكان لسان حاله يقول إن الأقدار أبت إلا أن تصحح المسار، وتعيد قيادة ثورة يوليو إلى صاحبها الأصلي «أنور السادات» في 15 مايو 1971 بعد أن أطاح بمن سماهم «مراكز القوى» وفيهم نائب رئيس الجمهورية، ونائب رئيس الوزراء وزير الداخلية، ووزير الدفاع، وزير الإعلام، ووزير شئون الرئاسة، ورئيس مجلس الأمة، وأمين الاتحاد الاشتراكي، وغيرهم من المسئولين  الذين تقدموا باستقالاتهم إليه فوافق عليها وقرر القبض عليهم وأطلق ثورته الأولى التي  تربع  بعدها على كرسي الحكم بدون منازع أو معترض.

خطاب السادات وحديثه عن ثورة التصحيح

وصار يوم 15 مايو عيداً، ودخل ضمن قائمة الإجازات السنوية، وظل السادات طوال عشر سنوات يحتفل بثورته، ويحتفل معه إعلامه وأبواقه الصحفية، ونُشرت مئات المقالات، وصدرت عشرات الكتب، ونُوقش العديد من الرسائل الجامعية، وأنتجب الأفلام والمسلسلات التليفزيونية، وتأسست صحف ومدن ومحطات مترو ومدارس ومستشفيات ودور نشر تحمل اسم «مايو»، وظهر في السينما المصرية، ما يمكن تسميته «سينما 15 مايو»، وتم انتاج حوالي 12 فيلما، منها «امرأة من زجاج»، و«الكرنك»، و«طائر الليل الحزين»، وكانت كل قصص «أفلام مايو» تدور عادة حول أحد «مراكز القوى» الذي يسيء استغلال نفوذه ويتجبر على الناس بسلطته، فيعتقل المناضلين السياسيين، أو يعتدي على الأموال العامة، ثم تدركه قبل نهاية الفيلم «ثورة التصحيح»، فتقوده إلى السجن ليلقى جزاء إهداره لحقوق المواطنين وعدوانه على حريات الشعب.

ورغم أن «ثورة مايو» هي الثورة الأم بالنسبة للسادات إلا أنها ماتت بالسكتة الدماغية لحظة وفاته، وذهبت معه إلى مقابر التاريخ، ولم يعد لها ذكر، ولم يعد يُسمع عنها شيء، بعد أن كانت منتشرة في المناهج الدراسية وتتصدر نشرات الأخبار.

الذين لم يعيشوا فترة حكم الرئيس السادات ربما لا يعرفون أنه كانت له عادة سنوية في احتفاله بعيد «ثورة مايو » أو احتفائه بنصر أكتوبر، فكان كل سنة يعدد إنجازاته على مدار السنوات التي قضاها في الحكم، فيبدأ بالحديث عن «ثورة مايو» سنة 1971 أول وأهم إنجازاته، ثم يثني بالحديث عن طلبه من قيادة الاتحاد السوفييتي سحب الخبراء العسكريين من مصر سنة 1972، ثم يستفيض بالحديث عن حرب أكتوبر في سنة 1973، ثم الانفتاح الاقتصادي في سنة 1974، ثم اطلاق الأحزاب في سنة 1976، ثم انتفاضة الخبز في 1977، ثم زيارة إسرائيل في 1977، ثم اتفاقية كامب ديفيد في 1978، ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في سنة 1979.

كانت الدعاية السياسية التي تصاحب حديث السادات عن «ثورة مايو» أنها الثورة التي أسقطت حكم «مراكز القوى» وأغلقت المعتقلات وأوقفت التعذيب في السجون وألغت الرقابة على التليفونات ،وبدأت أولى وأهم الخطوات على الطريق إلى الديمقراطية التي صارت لها أنياب بعد تصاعد المعارضة السياسة للسادات، وكانت ذروتها في انتفاضة الخبز في يناير سنة 1977 والتي أطلق عليها السادات اسم «انتفاضة الحرامية».

والمثير أن الرئيس السادات، الذي كان يفخر بأنه الذي أسقط دولة «مراكز القوى» وأقام العهد الديمقراطي، كان يُفرط في استخدام الاستفتاء الشعبي على اجراءاته التي ينكل  فيها  بمعارضيه، ويقيد بها حقوق المواطنين ويعتدي عبرها على حرياتهم. ومع ذلك كانت نتيجة كل استفتاء هو الموافقة على تلك الإجراءات بنسبة لا تقل عن 98%، وأي استعراض لقائمة الاستفتاءات التي شهدتها مصر منذ سنة 1952 وحتى ثورة يناير 2011 سنجد أنها 21 استفتاء، واللافت أن الرئيس أنور السادات تصدر القائمة بعشرة استفتاءات أجريت في عهده، يليه حسني مبارك بسبعة استفتاءات، وأخيراً جمال عبد الناصر بأربعة فقط منها اثنين على اختياره رئيسا للجمهورية حيث كان منصب الرئيس بالاستفتاء وليس بالانتخاب.

في الفترة من سنة 1952 حتى سنة 1970 (18 سنة) جرت أربعة استفتاءات أولها في يونيو سنة 1956 حول الدستور، واختيار جمال عبد الناصر رئيسًا لأول مرة، ثم استفتاء فبراير 1958 حول قيام الوحدة بين مصر وسوريا واختيار عبد الناصر رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة، ثم استفتاء مارس 1965 لاختيار جمال عبد الناصر رئيسًا للمرة الثانية، وأخيراً استفتاء مايو 1968 على بيان 30 مارس.

أما  خلال فترة السادات 1970 حتى 1981 (11 سنة) فقد جرت عشرة استفتاءات، أي بمعدل استفتاء كل سنة تقريبا، أولها استفتاء أكتوبر 1970 لاختيار السادات رئيسًا بعد وفاة عبد الناصر، ثم استفتاء الأول من سبتمبر سنة 1971 حول اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا، ثم استفتاء بعده مباشرة في 10 سبتمبر سنة 1971 على الدستور الدائم، ثم استفتاء مايو سنة 1974 حول ورقة أكتوبر، ثم استفتاء سبتمبر سنة 1976 لاختيار أنور السادات رئيسًا لفترة ثانية، ثم استفتاء فبراير سنة 1977 حول مجموعة قوانين حماية الوحدة الوطنية، ثم استفتاء مايو سنة 1978 حول قانون العيب وقوانين حماية الجبهة الداخلية، ثم استفتاء أبريل سنة 1979 حول معاهدة السلام مع إسرائيل، وحل مجلس الشعب، ثم استفتاء مايو سنة 1980 حول تعديل الدستور وفتح المدد الرئاسية لتصبح مدد أخرى بدلاً من مدة واحدة بعد انتهاء المدة الأولى، ثم الاستفتاء الأخير في سبتمبر سنة 1981 على اعتقالات سبتمبر وما سمي بمبادئ الوحدة الوطنية.

أما فترة حسني مبارك (1981-2011) فقد شهدت سبعة استفتاءات منها أربعة لاختياره رئيساً أولها في أكتوبر ،1981 والثاني في أكتوبر 1987، والثالث في أكتوبر 1993، والرابع في سبتمبر 1999 لاختياره لفترة رئاسية رابعة، وكان هناك ثلاثة استفتاءات أخرى الأول في فبراير 1987 حول حل مجلس الشعب، والثاني استفتاء مايو 2005 حول تعديل المادة 76 من الدستور ليصبح الرئيس يُنتخب مباشرة من الشعب، والثالث استفتاء مارس 2007 حول تعديل 34 مادة من الدستور.

كلمة السادات بعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد»

الرئيس السادات قائد ثورة التصحيح، وهادم السجون، ومغلق المعتقلات، ومطلق مسيرة الديمقراطية، هو نفسه الرئيس الذي  شهدت فترة رئاسته الأقل نسبياً بالمقارنة مع سلفه وخلفه، أسوأ استخدام لوسيلة الاستفتاء في تاريخ الاستفتاءات كلها ،فقد كان يستفتي الشعب على مجموعة من الإجراءات والقوانين التي تصادر الحقوق السياسية للإنسان المصري، وتفرض القيود على الحريات، وتهدر المبادئ القانونية المستقرة في التشريع المصري أو فى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وتسهل للسلطة خرق الضمانات المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية، وتُنشىء محاكم استثنائية، وتسمح بمحاكمة المواطن أمام قاضٍ غير قاضية الطبيعي، وتهدر درجات التقاضي، وتؤسس لسلطة الاستبداد وللدولة البوليسية.

وفي عصر الرئيس السادات ظهر مصطلح «القوانين سيئة السمعة» كما ظهر المصطلح الأشهر «ترزية القوانين»، وهما المصطلحان اللذان اتسع نطاق استخدامهما في عصر  مبارك، وكان هذان المصطلحان حاضرين بكثافة عند إقرار ما سمي بقوانين حماية الوحدة الوطنية التي أستفتى عليها في استفتاء فبراير سنة 1977 ثم عادا للظهور مرة أخرى حين صدر قانون العيب وقوانين حماية الجبهة الداخلية واستفتي الشعب عليها في استفتاء مايو سنة 1978، وكان آخر ظهور لها في عصر السادات عقب اعتقالات سبتمبر سنة 1981، ووضع ما سمي   بمبادئ الوحدة الوطنية، التي تم الاستفتاء عليها في يوم 10 سبتمبر 1981 سنة  وقد جاءت نتيجته بالموافقة على كل ما ورد فيه من انتهاك لحقوق المواطنين وعدوان على حرياتهم بنسبة ‏99،45%.‏

هذا الاستفتاء هو آخر إجراء قام به الرئيس السادات الذي بدأ رئاسته مبشراً بالديمقراطية وإطلاق الحريات ورفع الرقابة عن الصحف ووقف الاعتقالات وإلغاء الطوارئ ثم إذا به في نهاية حياته يختمها بفتح السجون واعتقال حوالي 3000 مواطن بينهم 1536 من المنتمين إلى كل القوى والتيارات السياسية، وإغلاق عدد من الصحف، ونقل عدد من الصحفيين وأساتذة الجامعات إلى مجالات عمل أخرى، وكالعادة  انطلقت أقلام السلطة تهاجم المعتقلين وتدافع عن قرارات السادات، في مقدمتهم موسى صبري في «الأخبار»، الذى اعتبرها قرارات لضرب الفتنة، وسمتها «الأهرام» ثورة العمل الداخلي، أما محسن محمد، رئيس تحرير جريدة «الجمهورية» فقد وصف الاعتقالات بأنها «ثورة سبتمبر» ، وشبهها بالثورة العرابية التي كانت تحل ذكراها المئوية في تلك الأيام.(!)

في بيانه يوم 14 سبتمبر سنة 1981 بمناسبة ظهور نتيجة الاستفتاء على إجراءاته الغاضبة قال الرئيس أنور السادات:

بسم الله…

أهلي وشعبي. أبنائي وبناتي.       

رأيت أن أتحدث إليكم بعد ظهور نتيجة الاستفتاء حتى أعبر أولاً عن عرفاني وشكري الخالص. حتى أنحني أمام هذا الشعب وأمام إرادته وأمام ما أحاط به مصر من تكريم فوق تكريمه، فصوت الشعب هو من صوت الله سبحانه وتعالى. أنحني أمام الشعب عرفاناً واحتراماً وتقديراً ووعداً أن أظل كما عاهدتموني أباً للعائلة المصرية قبل أن أكون رئيساً للجمهورية. إن صوتكم المدوي بكلمة نعم في الاستفتاء قالها حوالي 11 مليون صوت أمام 60 ألف صوت قالوا لا. هذه الكلمة المدوية من 11 مليون صوت تقريباً هي إعلان جديد من شعب مصر للعالم كله، لأمتنا العربية، لأولئك من شعبنا من الـ 60 ألفاً الذين قالوا لا، مرة أخرى أنحني عرفاناً وشكراً وتقديراً، فرضا الشعب من رضا الله سبحانه وتعالى،

وبالنسبة لي فإنني في عملي وكما عاهدتموني في الـ 11 سنة الماضية أقول الحق ولا أحيد عنه ولا أخاف أحداً أبداً إلا الله سبحانه وتعالى، ورائدي دائماً قبل أن أنام كل ليلة وأنا أنادي ربي أقول كل ليلة ربي إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، أقولها اليوم وأنا سعيد فخور بأصواتكم، بنداءاتكم، بالمعاني التي جاءت من وراء كلمة نعم التي أعلنتموها عالية مدوية .. لأول مرة في تاريخ الاستفتاءات في مصر لا يكتفي الشعب بأن يقول نعم، وإنما يخرج بالمئات والآلاف أمام اللجان الانتخابية لكي يعلنوا بأعلى صوت إصرارهم على المسيرة التي بدأت ولن تتوقف بإذن الله.

 لكن تلك «المسيرة» توقفت بعد أقل من أسبوعين على هذه «النَعم» ،التي اعتبرها السادات مدوية ، وانتهت ثورة 5 سبتمبر آخر ثورات السادات ظهر يوم السادس من أكتوبر 1981، ولم يعد لها ذكر في التاريخ إلا للذكرى والاعتبار.

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock