رؤى

­­”هيكل”.. نموذج نادر لإدارة المؤسسة الصحفية 

ظهيرةٌ صيفٍ قاهري ساخن يلتهب بالأحداث المنذرة بوخيمِ العواقب، وحراك على عدة أصعدة يَشِي بمجهول يتخلَّق في رحم الغيب؛ يوشك أن يغيرَ وجهَ مصر إلى الأبد.. تلك كانت الحال حين جمعهما اللقاء خارج منزل اللواء نجيب قبيل قيام حركة الجيش بأيام، لم يكن لقاؤهما الأول، إذ تعددت اللقاءات بين محمد حسنين هيكل والضابط جمال عبد الناصر بعد لقائهما الأول في معارك حرب فلسطين؛ وكان الحوار ذا أهمية كبيرة إذ تعلَّق بموقف بريطانيا من أي تحرك للجيش إذا ما تقرر ذلك بعد عدة مواقف أظهر فيها الملك تجاوزاتٍ غير مقبولة بشأن المؤسسة وضباطِها.

كان الصحفي الشاب ابن التاسعة والعشرين قد قضى عشرَ سنواتٍ كاملة في بلاط صاحبة الجلالة؛ منذ دخل “الإيجيبشان جازيت” محررا متدربا على يد السيد “سكوت واطسون” وهو واحد ممن أثَّروا تأثيرا كبيرا في هيكل، وشكَّلوا وجدانه المهني –إذا جاز التعبير– كان “واطسن” مثقفا يساريا حالما شارك في تغطية الحرب الإسبانية التي قسمت أوروبا بين الفاشية والديمقراطية، وكان الإعجاب به أحدَ الأسباب التي دفعت بهيكل للذهاب إلى الصحراء الغربية لتغطية الحرب الدائرة هناك، وكانت إحدى أهم مواجهات الصراع في الحرب الكونية.

في ذلك الوقت شغل السيد “هارولد إيرل” منصب رئيس التحرير في “الجازيت” وهو من شجَّع هيكل على المُضي في مغامرة تغطية معارك العلمين؛ التي كانت بمثابة تقديم لإحدى أهم مواجهات الحرب العالمية الثانية بعيون مصرية.

محمد حسنين هيكل

بعد عامين من العمل في “الإيجبشيان” ينتقل هيكل إلى العمل في “آخر ساعة” مع الأستاذ “محمد التابعي” ليعاين العمل الصحفي من زاوية أخرى هي زاوية المسرح والبرلمان، بعد أن خبرها في “الجازيت” عبر الجريمة ومعارك الميدان، لكن الأمور سرعان ما تتأثَّر سلبا، فيضطر “التابعي” إلى بيع المجلة لمؤسسة أخبار اليوم حديثة النشأة التي كانت قد حققت قفزة نوعية في عالم الصحافة العربية في وقت قصير؛ وينتقل “هيكل” للعمل في “أخبار اليوم” بعد رفضه عرضا مُقدَّما من الأستاذ “إميل زيدان” صاحب دار الهلال لرئاسة تحرير مجلة “الإِثْنَيْنِ” وكانت مجلة سياسية ذائعة الصيت تولَّى تحريرها “مصطفى أمين” فبلغت معه أَوْج انتشارها، ثم تعرَّضت بعد خروجه منها لهزَّةٍ شديدة.

حافظ “هيكل” على منصبه سكرتيرا لتحرير “آخر ساعة” مع عمله محررا بأخبار اليوم، وظل يعمل بهذه المؤسسة لأكثر من عشرِ سنواتٍ قضى نصفها تقريبا في ساحات الصراعات الكبرى؛ بعد أن نال جائزة “فاروق” للصحافة العربية عن سلسلة تحقيقات أجراها عن وباء الكوليرا الذي اجتاح محافظة الشرقية آنذاك، ثم كان قراره بالبحث عن المتاعب خارج الوطن بتغطية الأحداث الساخنة في الشرق الأوسط، وما حوله.. بدءا من الحرب الأهلية اليونانية التي امتدت لتشمل سائر البلقان، ثم حرب فلسطين، إلى سلسلة الانقلابات العسكرية في سوريا، إلى اغتيال الملك “عبد الله” في القدس، و”رياض الصلح” في عَمَّان، و”حسني الزعيم” في دمشق، ثم ثورة “مُصَدَّق” في إيران، وأحداث الصراع في إفريقيا وحرب كوريا وحرب الهند الصينية الأولى.

محمد حسنين هيكل

اندلعت حركة الجيش في يوليو من العام1952، وكان هيكل كعادته في قلب الحدث، وهو من أبلغ “الهلالي” باشا آخر رئيس وزراء في العهد الملكي، برغبة الضباط في تقديمه لاستقالة الحكومة، وكان قريبا طوال الوقت من “عبد الناصر” يمده بالمعلومات الهامة التي يحصل عليها عن طريق مصادره الموثوقة في الداخل والخارج.. هذه المعلومات التي كان عقل “عبد الناصر” يستفيد منها استفادة قصوى في إصدار أصعب القرارات في الأوقات الحرجة على نحو أبهر “هيكل” شخصيا.

ارتبط “هيكل” بأخبار اليوم ارتباطا شديدا لدرجة أنَّه اعتذر عن قبول منصب رئيس تحرير جريدة الجمهورية المعبِّرة عن يوليو، والتي كان ترخيصها باسم “عبد الناصر” شخصيا؛ لكن الأقدار شاءت أن يترك “هيكل” أخبار اليوم إلى رئاسة تحرير جريدة الأهرام التي كانت تعاني مشكلاتٍ لا حصر لها.. رأى “هيكل” أنَّ رئاسة تحرير الأهرام تمثل تحديا مهنيا كبيرا بالنسبة له، بعد قناعته التَّامة أنَّ تجربته الصحفية في أخبار اليوم قد استنفذت كل أغراضها.

كانت الأهرام قد خسرت نحو المليون ونصف المليون جنيه على مدى عشرِ سنواتٍ قبل أن يتولَّى “هيكل” أمرها، وكان توزيعها قد انخفض لقرابة ستين ألف نسخة، كما كانت أحدث آلاتها ومعداتها يعود تاريخ صنعه إلى العام 1928، وكانت أسرة “تقلا” المالكة للأهرام قد دخلت فعليا في مفاوضات لبيعها لحساب دار التحرير للطبع والنشر التي كان “السادات” على رأس إدارتها، وأوشك الاتفاق أن يتمَّ بإجمالي مبلغ  قدره ثمانمئة ألف جنيه..بعد سبعة عشر عاما من العمل الدءوب يقرر الرئيس “السادات” إبعاد هيكل عن الأهرام، وكانت أصولها قد جاوزت الأربعين مليون جنيه، وحجم عملياتها السنوية يدور حول المئة مليون، كما بلغ متوسط توزيعها اليومي سبعمئة وخمسين ألف نسخة، وتراوحت أرباحها السنوية بين ثلاثة وأربعة ملايين جنيه.

مبنى هيكل في مؤسسة الأهرام
مبنى هيكل في مؤسسة الأهرام

أمَّا من الناحية المهنية فقد حققت الأهرام في عهد هيكل نجاحات صحفية كبرى؛ حتَّى أصبحت من الصحف العشر الكبرى في العالم، وفق تقرير نشرته” التايمز” كما أصبحت المؤسسة من حيث الجاهزية والتحديث ضمن ثلاث مؤسسات صحفية هي الأكثر تقدما في العالم بشهادة مؤتمر الصحافة العالمي المنعقد في لوس أنجلوس مطلع السبعينات.

وكان من أهمِّ إنجازات “هيكل” داخل تلك المؤسسة العريقة، تأسيسه لمركز الأهرام للدراسات  السياسية والاستراتيجية الذي تمتَّع باستقلالية حقيقية، وغرّد كثيرا خارج السرب بما أصدره من مطبوعات حرصت على إبراز الحقائق، وتوخي الصدق  والأمانة العلمية، وشرف الكلمة مهما كانت الضعوط.

وبالرغم من الصداقة الوطيدة التي جمعت بين “هيكل” والرئيس “عبد الناصر” واتفاقهما بشأن حرية الأهرام التي هي جزء من حرية الصحافة؛ إلا أنَّ ذلك لم يَحُلْ دون صِدَامِ “هيكل” ببعض أجهزة الدولة بسبب نقده لكثير من الممارسات المحسوبة على التجربة الثورية؛ حتَّى إنَّه كتب صراحة عن “زوار الفجر”.. كما أتاح لكتَّاب الأهرام أفقا مفتوحا لنقد الأخطاء والمثالب، ورأت بعض الأجهزة أنَّ ذلك غير مناسب لطبيعة المرحلة..على إثر ذلك تعرَّض عددٌ من محرري الأهرام للاعتقال منهم “عبد الرحمن الشرقاوي” والدكتور “جمال العطيفي” و”لطفي الخولي” و”حمدي فؤاد” و”أحمد نافع”، كما اعتقلت سكرتيرة هيكل الخاصة بعد ثلاثة أيام من توليه منصب وزير الإرشاد.

هيكل وعبد الناصر
هيكل وعبد الناصر

لم يكن “هيكل” ليتصور أن تصبحَ المؤسسات الصحفية الكبرى ملكا للدولة بين عشية وضحاها، وظل في خلاف مع الرئيس “عبد الناصر” دام لسنواتٍ حول قانون تنظيم الصحافة، وكان “عبد الناصر” رافضا بشدة لاستمرار الملكيات العائلية للمؤسسات الصحفية، وبرغم أنَّ الرئيس أتاح لهيكل الفرصة لاقتراح بعض التعديلات على قانون 1960، إلا أنَّ “هيكل” ظلَّ يناوئ من أجل ملكية تعاونية للصحف على غرار”اللوموند” الفرنسية على أقل تقدير، وعندما صدرت المذكرة التفصيلية للقانون اعترض هيكل على بعض النقاط، ووفق ذلك أُجريت بعض التعديلات أيضا.

وقد ظلَّ “هيكل” منافحا عن فكرة الملكية التعاونية إلى أن انتهى الأمر إلى إنشاء هيئة الصحافة العربية المتحدة، وقرر الرئيس وفق ذلك أن تنتقل تبعية “الجمهورية” للتنظيم السياسي بالاتحاد الاشتراكي، على أن يضمَّ “هيكل” تحت إشرافه مؤسسة أخبار اليوم إلى جانب الأهرام.. وقبل “هيكل” على مضض.

وعندما تولَّى “هيكل” وزارة الإعلام حاول أن يُبعدَ اتحاد الإذاعة والتليفزيون عن قبضة السلطة، وكان يريد له وضعا مشابها لوضع هيئة الإذاعة البريطانية، وحدث أنَّه أوفد الدكتور “مصطفى خليل” إلى لندن لدراسة التجربة دراسة وافية، وعندما عاد قدَّم تقريرا مفصلا؛ دارت حوله نقاشاتٌ موسعةٌ انتهت بصياغة مشروع القانون الذي قُدِّمَ لمجلس الدولة؛ فتمَّ الاعتراض عليه، ولكن “هيكل” ضغط من جديد بعد تعديلات طفيفة، ووافق الرئيس على القانون كما قدَّمه “هيكل”.

بعد خروجه من الوزارة تمَّ إلغاء القانون، وعادت تبعية الجهاز إلى وزير الإعلام، كما ألغى “السادات” في1976، قانون الصحافة العربية المتحدة؛ لتحكم السلطة قبضتها على كافة وسائل الإعلام بشكل غير مسبوق.

كان القرار في 1974، بإبعاد “هيكل” عن الأهرام قاسيا؛ لكن روح الانتقام دفعت بالبعض إلى منعه من الكتابة في مصر أيضا، فقرر “هيكل” الاتجاه لكتابة الكتب ونشرها دوليا، بعد رفضه عرضين عربيين سخيين لتولى إدارة صحف، وكانت دار “كولينز” في لندن هي من حظت بنشر أول كتبه “ساسة وثوار” وهي الدار التي استمرَّ معها حتى النهاية، وقد حققت كُتُبُه التي بلغت إحدى عشر كتابا خلال حقبة السبعينات وحدها مبيعاتٍ هائلةً، بعد أن تعاقدت مع “كولينز” كبريات دور النشر في فرنسا وألمانيا واليابان بالإضافة إلى “كولينز” نيويورك.

ثم استمرَّت رحلة العطاء التي أثرت المكتبة العربية والعالمية بعشرات الكتب، وآلاف المقالات والعديد من اللقاءات المتلفزة، إلى أن كان المشهد الأخير في السابع عشر من فبراير2016، حين شُيِّعَ هيكل من مسجد الحسين -كما أوصى- إلى مثواه الأخير تاركا مكانة في الصحافة العربية من الصعب الوصول إليها.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock