يحمل الإرهابي المهاجر حقيبته، قاصدًا أرض النزاع والمعارك، وبعينيه ينظر خلفه نحو وطنه الذي بات في وجدانه أرض شرك وردة وأهلها غافلون، إلا أنه إذ يرنو يحدوه الأمل في أن يعود حاملًا سلاحه ليفرغ طلقاته في صدور أعدائه، وليشكل ورفقائه طلائع الفتح المزعوم.
يتخذ مفهوم الهجرة عند هؤلاء حيزًا شاسعًا في أفئدتهم ووجدانهم، إذ إنهم يتمثلون تجربة الجماعة المسلمة الأولى التي هاجرت هجرتين، ثم عادت بعد الثانية لتفتح الموطن الأصلي للمهاجرين، بعد غزوات كبرى وقعت أحداثها على أرض المهجر، بما يعني لديهم أن الهجرة تقضي بحتمية العودة ولو بعد حين.
هاجر الآلاف من السلفيين التكفيريين التوانسة إلى بؤر الصراع في سورية، ولم يبق منهم سوى القليل، إلا أنهم رفعوا شعارًا نشروه على حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي «صبرا يا قيروان فإن أجسادنا في الشام وقلوبنا عندك»، وفي الخلفية يظهر مقاتل تونسي يحمل السلاح ويرنو بناظريه إلى المدينة العريقة.
بعد اندلاع الثورة السورية المسلحة، لم يعتقد كثير من المراقبين المصريين، في أن ما يجري هناك من تطورات سيكون له تأثيرات مباشرة على الساحة هنا، خاصة فيما يتعلق بالتغيرات التي طرأت في أوضاع التنظيمات الجهادية المتطرفة ذات الصلات الوطيدة بتنظيم القاعدة.
خرج شاب ينسدل شعره خلف رقبته، عاقدًا عمامة على رأسه، تحفه الخضرة والأشجار من كل جانب، أمام كاميرات تنظيمه «داعش»، وبينما ينهمك في الحديث ويظهر على الشاشة اسمه «أبو مسلم المصري».
أبو مسلم المصري
«هاجرنا لإعلاء كلمة الله، ولكن بقيت عيوننا على بلادنا نتابع ما يحدث فيها» … هكذا يتحدث «أبو مسلم»، الذي جاء تعريفه بــ«أحد قضاة المحكمة الاسلامية في حلب».
يبدو شابًا ذا سمت هادئ ووديع، بينما كشفت شهادات منشقين عن التنظيم فيما بعد، أنه كان من غلاة التيار الأكثر تشددًا في التنظيم، حيث أفتى بجواز تعذيبهم في سجونهم سيئة الصيت.
في سلسلة إصدارات مرئية لــ«داعش»، حملت مسمى «رسائل من أرض الملاحم»، تعهد أبو مسلم المصري «لقي حتفه مؤخرًا»، بإمداد التنظيم في سيناء بالمال والسلاح والرجال.
حضرت الدولة المصرية بقوة في خطاب التنظيم، إلا أن ذلك كان حاضرًا منذ التأسيس الفعلي لها، على يد «أبو أيوب المصري»، الذي استطاع أن يجلب معه، وقت تأسيسه الجناح العسكري، أعدادًا كبيرة من المصريين تجاوزوا المئات في بعض التقديرات.
ظهور العنصر المصري في تلك التنظيمات، وخاصة تنظيم الدولة الاسلامية «داعش» والرسائل المتتالية التي بثها هؤلاء عبر مقاطع فيديو موجهه إلى «المجاهدين في مصر» جلعت مسألة التنقيب في عقل هذا التنظيم وتشريحه، ضرورة ملحة للإجابة على سؤال: كيف ينظر هذا التنظيم إلى الدولة المصرية، وما عساه يخطط لها وما يستهدفه منها؟.
في رسالة صوتية لأبي محمد العدناني، المتحدث السابق للتنظيم، تحت عنوان «عذرًا أمير القاعدة»، كشف فيها عن أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق لم يتدخل في مصر وليبيا وتونس بعد نشأتها، بسبب رفض «القاعدة» لذلك، وأنهم في العراق «ظلوا يكتمون غيظهم ويكبحون جماح جنودهم على مر السنين والحزن يملأ أركانها وربوعها لكثرة استغاثة المستضعفين بها والعلمانيون ينصبون طواغيت جدد أشد كفرا من سابقيهم».
كما حضر العنصر التكفيري المصري المنتسب لجماعة «أنصار بيت المقدس» بقوة في تنظيم “الدولة الإسلامية” بعيد ثورة الــ25 من يناير.. فقد قام التنظيم السيناوي المنشأ بإرسال عدد كبير من مقاتليه للتدريب في معسكرات “داعش” في العراق والشام، بغرض التدريب والعودة مرة أخرى أو البقاء هناك، وقت أن كان التنظيم ليس في حاجة كبيرة لهم بعد الثورة المصرية، وإيثاره عدم الصدام مع الدولة المصرية، مستغلا تلك الفترات في الاعداد والتجهيز، ريثما تتهيأ له اللحظة التي يمكنه من خلالها التمرد وإعلان إمارة إسلامية.
استدعت الجماعة المتطرفة خططها القديمة الناجعة لتطبيقها على الواقع المصري، تلك الخطة التي تستهدف فك السبيكة الوطنية لمجتمع ما حتى تستطيع الإجهاز عليه وتفكيكه والعيش على أنقاض الفوضى والنمو والتكاثر بداخله.
وتعد مصر في وعي تلك الجماعات “المفتاح” الذي إن ملكته ملكت المنطقة بإثرها، لكنها بحثت عن ثغرة للنفوذ إليها فلم تجد سوى الثغرة الطائفية، تلك الثغرة التي جربتها في العراق فآتت نيرانها، ومن ثم فهي تحاول تطبيقها في مصر، التي وإن لم تتمتع بوجود للطائفة الشيعية إلا أنها تملك طائفة مسيحية يرى التنظيم أنه يمكن الدق عليها حتى تشتعل شرارتها، وتندلع الفتنة في البلاد.
على إحدى مواقع الإنترنت التابعة لداعش، سقطت عيناي على إحدى الموضوعات المعنونة بــ”سر الأحجية المصرية”، كتبه شخص يكنى “أبو مودود الهرماسي” يقول فيه: إن مصر هي المفتاح الذي إن تمكنا من إسقاطه فإن العالم بأجمعه سوف ينهار، مما يعزز إمكانية إقامة دولة الخلافة.
يقول أبو مودود: «مصر ستظل محور اهتمامات القاصي والداني، الشرقي والغربي، البر والفاجر، المسلم والكافر، فهي رمانة ميزان الاستقرار للغرب الكافر ببلاد المسلمين ومنطلق فوضى الانهيار العالمي؛ لذلك هي أم الدنيا فعند استقرارها تستقر الدنيا، وعند انشطارها تنشطر الدنيا».
وفي إحدى المحاور يتساءل «الهرماسي» كيف نفتح مصر؟ ثم يعرج قائلًا: «إنها الدولة العربية الوحيدة التي يتمتع جيشها بالتماسك، والبعد عن الطائفية، كما أن شعبها يميل إلى الاستقرار ويكره الفوضى».
يسرد أبو مودود خطوات محددة لما يسميه النكاية والإنهاك المبدئي للدولة المصرية:
أولا: إثارة الفوضى بين الجهات المنوطة بحمل السلاح وهي: (الجيش والشرطة)، باستدراج عناصر منهم لعمل عمليات ضد فريق آخر، وتأليب فريق على آخر بالإعلام والحرافيش والمال وتذكير أناس موحدين صادقين من داخلهم بشرعية العمل وفضله.
ثانيا: إنهاك الدولة بإسقاط منظومة المال باستهداف المواني، وممرات الملاحة، والمباني الاقتصادية والمالية مثل البنك المركزي ومقرات البورصة، والبنوك، وإضعاف الجنية أمام العملات الأخرى، ومنظومة الطاقة من كهرباء ونفط وغاز.
ثالثا: تطفيش «وفق تعبيره» كل الاستثمارات الأجنبية، والعربية من مصر باستهداف الشركات والمؤسسات الخليجية والأجنبية استهدافا مباشرا من خلال اختطاف الرعايا، وحرق المصانع والشركات متعددة الجنسيات، أمثال شركات «ذكر أسماءها»
رابعا: اغتيال «أئمة الكفر»، ممن لا يرافقهم حراسة من القضاة وضباط الشرطة والجيش والإعلاميين بما لا يوقع إخواننا المجاهدين في شبكة العدو بأن يضع لك فريسة ليصطادك بها ولا تستثني المتقاعدين منهم إلا من تبين لك حيادتيه، فقد تم تجنيدهم أخيرا برفع تأميناتهم عشرة بالمائة زيادة مقابل عملهم مع أجهزة الأمن.
خامسا: إشعال المناطق القبلية في مطروح ووادي النطرون وما خلفهم من مناطق بالقتل العنصري للنصارى.
سادسا: وهو الأهم في الأمر باستهداف كل النصارى مباشرة، بلا استثناء فجلهم أصبحوا «محاربين للإسلام وأهله»، مع فطنة المجاهدين بأهمية إثارة الطائفية التي يهددنا بها الغرب ومؤسسات الأجهزة.
سابعا: تكوين مجموعات من الشباب وخاصة أبناء الجامعات الخاصة وتدريبهم على الاختراق ورفع مستوى أمنياتهم.
ثامنا: لماذا لا يتم تسميم مواسير المياه المتوجهة إلى معسكرات الأمن المركزي، ومعسكرات الجيش، أو عمل زجاجات مياه معدنية مسممة، ومغلقة وإهدائها للعساكر والضباط في الكمائن، وقد يكون صناعة طائرة صغيرة بدون طيار وملئها بالزرنيخ وإلقائها على مبنى وزارة الدفاع وأمن الدولة له أثر كبير في ذلك.
يشدد «الهرماسي»، بسفور على أن المطلوب هو إثارة الفوضى في مصر، فهي على حد تعبيره «المفتاح»، الذي بامتلاكه يملكون الدنيا، إلا أنها عقبة كؤود في وجههم.
في صورة نشرتها المواقع الإلكترونية التابعة لــ”داعش” أظهرت شخصًا انتحاريًا، يدعى “أبو مصعب المصري”- مسمى حركي- قبيل تنفيذه عملية انتحارية ضد جنود جيش النظام السوري في مطار الطبقة العسكري، وهو يرفع لافتة مكتوب عليها «من مجاهدي أرض الكنانة إلى عباد (…) هل عرفتم من ذبح جنودكم في رمضان، «في إشارة إلى مذبحة رفح الأولى»، أم أن مخابرات رأفت الهجان وجمعة الشوال قد أصيبت بالشلل؟»، ثم ذيل اللافتة بجملتين ذات دلالة واضحة: «الدولة الإسلامية في العراق والشام– أنصار بيت المقدس- سيناء مقبرة الطواغيت». في إشارة جلية إلى أن «أنصار بيت المقدس» هم من قاموا بتنفيذ عملية رفح الأولى والتي استشهد فيها 17 جنديا مصريًا وقت الإفطار في رمضان.
إن مصر لاصقة في وجدانهم حتى قبيل لحظة الموت.