رؤى

تجرد تنظيم الدولة في مقابل شعبوية القاعدة

الأزمة داخل الحركة الجهادية..

ليس سرا أن الجهادية السلفية تعاني مخاض أزمة مستفحلة. فبرغم تطورها السريع منذ عام 2001، لم ينجح الفكر الجهادي حتى الآن في تكوين فصيل واحد مُوحَد يحمل أيديولوجيته، وإنما – على العكس من ذلك – غالبا ما يختلف منظروه وتنظيماته حول قضايا جوهرية. يبرز من هذه الخلافات جميعا خلافان أسفرا – في نهاية المطاف – عن انقسام الجهاديين إلى معسكرات متعارضة.

يتعلق الخلاف الأول بقضية التكفير الجماعي وما يتمخض عنه من جرائم مدنية جماعية واستهدافات طائفية حزبية. بينما يتمحور الثاني حول أهمية بناء دول ’إسلامية‘، وتطبيق أحكام الشريعة ’الإسلامية‘ فيها، بما يخاطر بتغريب السكان المحليين وتنفيرهم، وتحويلهم في نهاية النفقإلى أعداء للجهاديين. ويشكل هذان الخلافان في التحليل الأخير انقساما بنيويا بين التجرد (التطهرية) من جانب والشعبوية من جانب آخر داخل الحركة الجهادية.

انتهج تنظيم الدولة الإسلامية التطرف المتزمت كسمة مميزة له. ويصر التنظيم على أن هذا الملمح يمثل الهوية الحقيقية لـ”الفئة الغالبة” التي تلتزم بلا مداهنة أو مواربة بالعقيدة السلفية، سواء من حيث النظرية أو التطبيق. وينتهز التنظيم كل فرصة تلوح له لتطبيق الشريعة الإسلامية واستئصال ما يعتبره ’بدعة‘ تعبدية من المناطق الخاضعة لحكمه، ويرفض التحالف مع الأحزاب أو الدول ’المرتدة‘، ويسعى إلى تأسيس خلافة ’إسلامية‘ دون أي اعتبار لمعايير السيادة الوطنية الحديثة.

يأتي هذا التجرد التطهري على النقيض من الشعبوية الانتهازية التي تنتهجها حركات إسلاموية تتسامح مع ما يفترض أنه ضلال عام لتجنب تنفير أتباعها، وترجئ بناء الدول القائمة على حكم الشريعة، وتختار – بدلا من ذلك –  العمل داخل إطار محددات الدولة الديمقراطية المدنية، ولا تمانع إقامة تحالفات مع الأحزاب العلمانية أو الحكومات المرتدة باسم الواقعية السياسية.

لطالما وجه الجهاديون هذه الانتقادات للفصائل التايعة لجماعة الإخوان المسلمين والقوميين الإسلامويين، مثل حركة حماس. لكن، في السنوات الأخيرة، عكف تنظيم الدولة الإسلامية على اتهام القاعدة بتبني الإسلاموية الشعبوية التي تسعى إلى كسب قلوب وعقول المسلمين بدلا من إعادة قولبتهم كمؤمنين عبر التطبيق الحازم والصارم للشريعة الإسلامية.

في هذا السياق، نشر “تنظيم الدولة الإسلامية في اليمن”، في 29 أبريل 2020، عبر مكتبه الإعلامي في “ولاية اليمن”، فيلما وثائقيا مدته 52 دقيقة يلقي الضوء على رحلة تنظيم القاعدة إلى ’الضلال‘ بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي. حمل هذا الوثائقي اسم “معذرة إلى ربكم”. وفيه يطرح تنظيم الدولة خمس حجج ضد تنظيم القاعدة ليقدم من خلالها تعبيرا واضحا عما آل إليه الخلاف بين القوتين الجهاديتين الكبريين المتنافستين.

في هذا الوثائقي، يتهم تنظيم الدولة الإسلامية القاعدة بالتردد في إقامة دولة ’إسلامية‘ – وهو هدف مهم “لحصد ثمار الجهاد” – ومنع غير السلفيين من احتكار السلطة السياسية. علاوة على ذلك، يزعم تنظيم الدولة أن القاعدة، بدافع من الحرص على الرأي العام، ترفض تطبيق الشريعة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، بما يخالف التكليف القرآني بـ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.

داعش معذرة إلى ربكم

ويزعم الوثائقي أن تنظيم القاعدة يعمد إلى اللهث وراء وهم الشعبوية الثورية عبر إقامة تحالفات مع فصائل مرتدة تؤمن بالديمقراطية والقومية والعلمانية. ومن هذا المنطلق، يرفض تنظيم القاعدة وحلفاؤه شن حرب على المشركين، وعلى رأسهم المسلمين الشيعة، ويدين تدمير الأضرحة والأماكن المقدسة الخاصة بالصوفية. وبحسب هذا الوثائقي، ومما يزيد الطين بلة، يعمد القاعدة إلى تشويه صورة الموحدين الحقيقيين في تنظيم الدولة الإسلامية بوسمهم بالخوارج وقتل جنوده في الوقت الذي يرفض فيه التشهير بالمشركين والقوميين والإسلاميين المضلَلين، مثل جماعة الإخوان المسلمين.

ربما لا تمثل هذا جديدا، لكنه – برغم ذلك – ينطوي علىدلالة خاصة لسببين جوهريين. أولهما ـ كما يقدر الكاتب، بناء على متابعته الوثيقة للبيانات التي تصدر عن تنظيم الدولة الإسلامية على مدى سنوات – أن هذا الوثائقي يعدالهجوم الأكثر مباشرة وشمولا ضد تنظيم القاعدة والعديد من فروعه والجماعات الموالية له حتى الآن، حيث يوجهانتقادا لاذعا لممارسات القاعدة في سوريا ومالي وليبيا وأفغانستان واليمن في ضربة واحدة. كما يشير إلى تمسك قيادة تنظيم الدولة الإسلامية بخياراتها وسياساتها برغم ما مُنيت به من هزائم وانتكاسات تجلت أكثر ما تجلت في سقوط دولة الخلافة المعلنة ذاتيا من قبل التنظيم في العراق وسوريا، ثم مقتل خليفتها أبو بكر البغدادي.

كما يكشف هذا الوثائقي أيضا أن تنظيم الدولة يعمق من ترسيخ سلطته المركزية على قادته الإقليميين في الولايات عن طريق تقويض قدرتهم على تشكيل تحالفات تكتيكية مع الجهاديين المنافسين في ساحات الصراع.

ثانيا، يضفي هذا الوثائقي مزيدا من المصداقية على دراستي توري هامينغ1https://ctc.usma.edu/hardline-stream-global-jihad-revisiting-ideological-origin-islamic-state/ وحسن حسن2https://ctc.usma.edu/two-houses-divided-conflict-syria-shaped-future-jihadism/، اللتين تبرزان الجذور العميقة للفصائلية المتجذرة داخل الحركة الجهادية – التي سبقت الانشقاق الرسمي بين التنظيمين –وتتوقعا استمرار وتمدد الصراع الحزبي في السنوات المقبلة. ومن خلال إدعاء حصرية الشرعية الجهادية في وثائقي 2020، تهدف استراتيجية “خوض المعركة منفردا” التي يتبناها التنظيم إلى استبعاد دعوات التعايش بين الفرقاء المتمثلين في تنظيم القاعدة. وإزاء ذلك، سيتكفل الوقت وحده بالكشف عما إذا كانت هذه الاستراتيجية خطأ ارتكبه التنظيم في حق نفسه، أم ضربة قاصمة وجهها إلىتنظيم القاعدة.

يبقى هذا الفيلم مهما لسبب آخر. فهو يلقي مزيدا من الضوء على الصراع المستمر على السلطة بين تنظيم الدولة في اليمن وتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية الذي بدأ في يوليو 2018. ففي ضوء التغييرات الأخيرة في قيادته، وبسبب الجدل المحتدم حول الطريقة المثلى للتعامل مع مزاعم التجسس داخل التنظيم، يخوض تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية صراعات داخلية. ففي 29 يناير 2020، فقد التنظيم قائده، قاسم الرايمي، في غارة أمريكية بطائرات بدون طيار ليحل محله خالد باطرفي الذي يترأس حاليا جماعة منقسمة على نفسها وتواجه خطر التفكك بشكل كبير بسبب الحرب الأهلية طويلة الأمد ضد المتمردين الحوثيين، والغارات الأمريكية المستمرة ضد قياداتها، والصراع الداخلي على أفضل السبل لإنقاذ أمن التنظيم الداخلي من المخاطر التي تحيق به.

ويرى تنظيم الدولة أن الفرصة سانحة الآن لتكثيف هجومه على تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، والذي يعد أكثر التنظيمات إخلاصا وولاء لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة. ففي وقت مبكر من عام 2020، سرب تنظيم الدولة تسجيلا صوتيا لأعضاء تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية يحثون فيه الظواهري على التوسط بين فصائل التنظيم بشأن قضية الجواسيس والمتعاونين الداخليين، حيث كان أحد الفصائل يرغب في إنشاء محكمة مستقلة للفصل في تهم التجسس. لكن باطرفي رفض ذلك جملة وتفصيلا لأنه من شأنه – بحسب باطرفي – أن يكشف عن تدابير أمنية تنظيمية يجب أن تبقى قيد السرية.

كشف تنظيم الدولة أيضا عن أسماء من زعم أنهم ثلاثة أعضاء تم إعدامهم في تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، و18 من قادته وعلمائه الذين استقالوا من مناصبهم أو سلموا أنفسهم للسلطات السعودية. وكان لدى تنظيم الدولة النية لتأجيج الشائعات الخاصة بالاختراق الجاسوسي الواسع لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، مما من شأنه أن يؤجج حركة الانشقاقات عن التنظيم.

ويخصص الوثائقي جزءا غير قليل لانتقاد تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، حيث يبرز ما يزعم أنه تعاون بين قادة تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية والحكومة اليمنية في حربهما المشتركة ضد الحوثيين، ليقدم بذلك الأدلة على التحالفات التي يقيمها التنظيم مع حكومات سبق لها أن قتلت الجهاديين، وليس لديها أية نية للحكم بموجبالشريعة ’الإسلامية‘. كما يزعم هذا الوثائقي أيضا أن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية يرفض تطبيق القواعد ’الإسلامية‘ في المناطق التي يسيطر عليها، فيما يمثل – في حسابات تنظيم الدولة الإسلامية – دليلا على أن القاعدة يضع اعتباراته السياسية فوق الإلتزام الديني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويؤكد الوثائقي أن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية سلم المناطق الخاضعة لسيطرته إلى المجالس القبلية المحلية ومسئولي الحزب الاشتراكي، بدلا من أن يسعى إلى إقامة حكومة إسلامية فيما يعده الداعشيون دليلا قاطعا على رغبة القاعديين في التخلي عن غنائم الجهاد لتهدئة العاطفة الشعبية. ويختم الوثائقي بعرض شهادات لعدد من المنشقين عن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، والذين انضموا إلى تنظيم الدولة الإسلامية في اليمن، مما يمكن أن يشجع آخرين على أن يحذوا حذوهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

د. محمد حافظ – أستاذ شئون الأمن القومي في كلية الدراسات العليا البحرية في مونتيري، كاليفورنيا

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي ومراجع الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock