نشأ التصوف كحركة مقاومة سلبية لمظاهر الترف والبذخ في دولة الإسلام الوليدة بفعل غنائم الفتوحات والاحتكاك بثقافات البلدان المفتوحة، وميل بعض حكام بني أمية إلى حياة الترف والنعيم، فكان أن قدم المتصوفة مفاهيمهم عن الزهد والتوبة والتجريد قبل أن تتحول تلك المفاهيم إلى مقامات وأحوال يجتازها أهل الطريق.
كانت البداية إذا أخلاقية مع رابعة العدوية وحسن البصري، لكنها تحولت مع ذا النون والمحاسبي والحكيم الترمذي والغزالي إلى المرحلة النفسية حين باتت مؤلفاتهم ودروسهم تدور حول رياضة النفس، ثم فلسفية إشراقية مع ظهور ابن عربي، والجيلي، والسهروردي المقتول و ابن سبعين، ثم طرقية مع ظهور بعض المدارس الطرقية كالمدرسة الشاذلية بالاسكندرية بداية من القرن السابع الهجري.
ربما تداخلت تلك المراحل فلم يكن الانفصال كاملا، فالحلاج وهو متقدم ظهرت لديه مفاهيم كالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، والطرقية ظهرت أيضا مع بعض المتقدمين كالرفاعي والجيلاني وحتى الطريقة الأكبرية التي تنسب لإمام الصوفية الأكبر محي الدين بن عربي.
طوال ذلك التاريخ الطويل لم يعرف عن الصوفية مٌداهنة السلطة أو تزلف الحكام، بل كان شيوخ المتصوفة هم ملاذ الفقراء ونصراء المستضعفين وكثيرا ما قادوا حراكا شعبيا واسعا لمواجهة السلطة كثورة ابن الصوفي العلوي على أحمد بن طولون في صعيد مصر عام 253ه، والحلاج في ثورة القرامطة مطلع القرن الرابع الهجري، وظل الصوفية هم أصحاب الثغور والمرابطين على حدود الدولة الإسلامية حتى العصر الحديث الذي انطلقت فيه العديد من حركات التحرر الوطني بقيادات صوفية كالإمام عبد القادر الجزائري في الجزائر، والحركة السنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان.
العوام يقودون الصوفية إلى أحضان السلطة
رغم أن التصوف الطرقي نجح في صناعة قاعدة شعبية واسعة منذ العصر المملوكي إلا أنه أضر بالفكرة الصوفية، فما أن دخل العصر العثماني حتى قدم نموذجا آخر للمتصوفة هو تصوف التكايا والزوايا والخنقاوات، ما كفل له انتشارا واسعا بين جموع الشعب لاسيما الفقراء والمعدمون والمنجذبون بمحبة آل البيت في مجتمع اقطاعي يقوم على فكرة السيد صاحب الاقطاعات والعالات من العباد، وهو أمر لم يكن فيه شين ولا عيب، “فالفقراء” و”المساكين” ألقاب يفخر بها المتصوفة كتعبير عن الخلاص من علائق الدنيا.
زاد توغل واتساع هذه الطرق في العصر العثماني واتسع تأثيرها على كافة شرائح المجتمع المصري، بعدما نعمت بتشجيع الدولة، حيث اعتنق العثمانيون الإسلام على يد مشايخ طرق كانوا ينعمون بمكانة كبيرة في الولايات السلجوقية والعصر العثماني عندما عرف العثمانيون الطرق الصوفية قبل استقرارهم في آسيا الصغرى، فضلاٌ عن أن الفتح العثماني لمصر قضى على البرجوازية التي كانت ضعيفة هزيلة ومقصورة على المدن ودعم مكانة الإقطاع الذي وجد في دعم هذه الطرق ومشايخها ما يحافظ على مكانته ومكاسبه.
لكن أكثر ما ميز صوفية التكايا والخنقاوات هو مغادرتها للعرفان وتحولها إلى صوفية الطقوس والمراسم والعبادات، غادرت الصوفية النخبة التي تستوعب مفاهيم كالإنسان الكامل، والحقيقة المحمدية، ووحدة الوجود، والحلول والاتحاد، ومعان راقية في الحب والكشف والذوق، إلى صوفية المجاذيب والدراويش وهي صوفية أقرب ما تكون إلى التدين الشعبي الذي يلهب مخيلة العوام بالحديث عن الكرامات والمعجزات.
ما يميز الأول أنه نخبوي استطاع أن يحافظ على نفسه بمنأى عن السلطة رغم هجمات متلاحقة طالتهم من الفقهاء للايقاع بينهم وبين السلطة، وهو أمر كان يستدعي وجود مثل تلك العلاقة، إلا أن التاريخ عرف “فقهاء السلطان” ولم يعرف “صوفية السلطان”.
وما يميز الثاني أنه جماهيري شعبوي استطاع الانتشار بين فئات متعددة ومتفاوته، لكنه لفت أنظار السلطة إلى ضرورة استيعاب الدولة لتلك الشرائح، وهو ما سعت اليه الدولة المصرية الحديثة منذ عهد محمد علي باشا وحتى يومنا هذا. لم تكن الطرق الصوفية فى مصر وحتى أواخر القرن الثالث عشر الهجرى خاضعة لتنظيم رسمى يشملها جميعا، ومع تولي محمد على باشا حكم مصر، وشروعه فى إعادة تنظيم شئون البلاد وإنشاء الدولة الحديثة، فقد أقال الشيخ خليل البكرى من نقابة الأشراف والسجادة البكرية، وأسندهما إلى الشيخ محمد أبو السعود البكري.
لم تكن تلك سوى البداية، بعدها أنشأت الدولة المجلس الأعلى للطرق الصوفية عام 1895، وابتداء من القرن التاسع عشر توالت التشريعات التي تنظم العمل جماعة المتصوفة شكلا، وتخُضع الجماعة لجهاز الدولة موضوعا، فقد صدر أول تشريع ينظم عمل الطرق الصوفية عام 1903م تبعه تعديل جزئي عام 1905م ظل معمولا به حتى ثورة 1952م. وإذا كان شيخ مشايخ الطرق الصوفية يعين من قبل المشايخ أنفسهم وفقا لتشريع عام 1903م، فإنه وفي اعقاب ثورة يوليو أصبح الحاكم هو من يقوم بتولية صاحب هذا المنصب الرفيع. وكان قبول الشيخ محمد محمود علوان شيخ الطريقة العلوانية الخلوتية تولي المنصب الجديد “شيخ مشايخ الطرق الصوفية” بقرار من حاكم سياسي لأول مرة، وليس وفقاٌ للائحة المجلس الصوفي الأعلى التي تقضي بانتخابه من قبل مشايخ الطرق والتي طبقت منذ بداية صدوره سنة 1903م إنباء بمستقبل تلك الجماعة التي ستصبح معولا في يد الدولة لمواجهة حركات الإسلام السياسي التي تمثلت بواكيرها في ظهور جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 1928م. وجاء القانون رقم 118 لعام 1976 ليحكم قبضة الدولة على الصوفية شيوخا ومريدين بشكل نهائي، ما جعل من الصوفية كجماعة مخلبا اجتماعيا في مواجهة ما يسمى بحركات الإسلام السياسي.