رؤى

جلال الموت.. والتنقيب في النهايات الأخروية

في الثقافة المصرية جذر عميق يجعل للموت مهابة وجلال، فإذا وقع، فإن الناس يستشعرون معنى الموت، وكيف أنه ميلاد جديد لمعنى أعمق للحياة، وأن حكمة الخالق سبحانه استدعت أن يقبض ودائعه من الموتى إليه في وقت قدره هو في كل يوم وساعة “كل يوم هو في شأن”، ليلفت محبيهم إلى أن الحياة مهما كان وهجها وجذبها وقوة حضورها فإنك لابد من يوم تغادر فيه، إذن عليك أن تهتم بهذا اليوم المقدر في علم الله سبحانه وتعالي.

العزاء وواجب التعزية فيمن يموت أهم لدى المصريين من حضور مناسبات الأفراح وأعياد الميلاد وغيرها، وحتى الذين بينهم تخاصم أوتدابر فإن الموت يجمعهم جميعا في سرادقات العزاء، تكون التعزية سبيلا للمراجعة وعودة الوئام والمحبة بين المتخاصمين، ويجتمع المصريون علي سماع القرآن الكريم حين التعزية ويحسنون الثناء على المتوفى إذا كانت سيرته حسنة، ولو لم تكن كذلك فإنهم يقولون “أفضي إلى ما قدم” أي انتهى أمره إلى ما قدم من عمل حسن أو سيء، فأمر ذلك إلى الله سبحانه وتعالى ولذا ورد في بعض الآثار النهي عن سب الأموات.

الموت خلق من خلق الله كما الحياة خلق من خلقه “هو الذي خلق الموت والحياة”، والموازنة  بين الدنيا والآخرة أمر مطلوب، قال النبي صلي الله عليه وسلم “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”، ولم يثق أحد حتى من كبار الصحابة في أن الجنة ستكون مصيره، فهناك قول مأثورة منسوب لكل من أبي بكر الصديق وعمر الفاروق “لو أن إحدى رجلي في الجنة والأخرى في النار ما أمنت مكر الله”، والمكر هنا بمعنى التدبير الخفي للخالق سبحانه وتعالى، فإنما الأعمال بالخواتيم، وأن الراحة الحقيقية كما أشار الإمام أحمد بن حنبل عند وضع أول قدم في الجنة.

عند أهل السنة أن أمر الجنة والنار إلى الله سبحانه وتعالى، هو أمره وشأنه، وأدى ظهور التيارات السلفية ودعاتها في الثمانينيات والتسعينيات إلى تحبيب الجنة لمريديهم حتى يمكننا القول إنهم حولوها من معني كريم لطيف تهفو الأنفس إليه إلي شيء يمكن الحصول عليه، كما لو كنا ندخل إلى سوبر ماركت لشراء ما نريد أو نقف أمام شباك لحجز التذاكر لطلب تذكرة للدخول، وأصبحنا نسمع الحديث عن القطع بدخول الجنة لكل من هب ودب، ولكل أحد من الشباب والشابات الجدد الذين بدت لهم الجنة وكأنها نزهة يمكن الحصول على إذن بدخولها كما نفعل في المولات والمحال التجارية الضخمة، ولم يدركوا أن الجنة تحتاج لمجاهدة شاقة، وأن أمرها إلى الله، وكذلك النار أيضا.

تزامن مع الظاهرة السلفية مسألة الحكم على الناس بالجنة والنار، كما تزامن مع ثورات الربيع العربي وظهور الخلافات السياسية بين التيارات المختلفة موضوع الشماتة في الموتى ووقوع الموت بهم أو بأنصارهم، كأن قدر الله بموت أحد يكون مجاملة لفريق في مواجهة الآخر دون أن يدركوا أن الموت كأس وكل الناس شاربه، وأن القبر باب وكل الناس داخله، وهذا تلاعب في مجال لا يجوز التلاعب به أو التشفي فيه أو إعلان الشماتة فيمن يقع به.

جلال الموت أكبر من الاشتغال بمن مات، وعظمة الموت حالة أكبر من أن ننصرف عن دروسها إلى الصغائر حول الميت ومصيره الأخروي وأين سيكون في الجنة أو النار، الموت يحدث ليلفتك إلى نفسك ولينبهك إلى مصيرك الفردي حين تأتي الله وحدك فردا دون أحد من العالمين.

 كانت وفاة عالم الفيزياء البريطاني “ستيفن هوكنج” إحدى تجليات الاهتمام بالمصير الأخروي للإنسان الميت، وترك كل ما يعد آيات في حياته للحديث عن أنه كان ملحدا، ليبقي النقاش في هذين الأمرين أهم بكثير مما عبر عنه الرجل من التحدي والإصرار والمثابرة والعناد في مقاومة ما أصابه من مرض، وكان بعد لا يزال سنه 21 عاما، رغم أن الأطباء توقعوا أن لا يعيش بعد إصابته سوى عامين فقط، لكنه بقي على قيد الحياة حتي فارقها وعمره 76 عاما، فهو من مواليد 1942، فقد القدرة على الكلام ومن قبلها فقد القدرة على الكتابة ولكنه تحدى ذلك كله وظل يقاوم ويكتب ويفكر ويخترع الجديد في الرياضيات والفيزياء لخدمة الإنسان والبشرية.

من أهم ما ألف هوكنج كتابه “تاريخ موجز للزمن” عام 1988، الذي بسطه للعامة بعنوان “تاريخ أكثر إيجازا للزمن”، وكتب مع ابنته “لوسي” قصصا علمية لتبسيط الفيزياء للأطفال. كان ضد غزو العراق، واعتبره جريمة حرب، وهو ضد الكيان الصهيوني، ودعم مقاطعة الأكاديميين لإسرائيل، وكانت لديه نزعة إنسانية في مواجهة النزعات الإمبريالية وتوظيف العلم من أجل النخب الحاكمة التي تثير القلق والفوضي في العالم بسياساتها مثل “الانتشار النووي” و”الاحتباس الحراري”.

كل ما قدمه الرجل تركناه نحن في جدلنا حول موته لنركز فقط على مصيره الأخروي وموقفه من الدين، رغم أن موقفه كإنسان عبر الإرادة والتحدي والإنجاز، وكإنسان في خدمة البشرية، وكإنسان في خدمة العلم، كان يجب أن يلفتنا أكثر، فمصائر البشر بيد خالقها، واختياراتهم الدينية مسؤولية كل واحد منهم.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock