أية قراءة للموقف السياسي الصوفي أثناء التحولات السياسية الكبرى التي شهدتها السياسة المصرية منذ اندلاع ثورة ٢٥ يناير لابد ان تمر تحت منظورين:
الاول : هو اشتداد زخم التيار السلفي وهو الغريم التاريخي والعدو التقليدي لجماعة المتصوفة، وتحالفه مع السلطة الحاكمة للإخوان ضد المتصوفة في هذه الفترة
الثاني : هو التموضع التاريخي لجماعة المتصوفة داخل مؤسسات الدولة فالصوفية- الساعية لحماية السلطة السياسية من العنف الفكري او المادي لخصومها – باتت أسيرة السلطة السياسية، وحبيسة قوانينها وأيديولوجيتها وصراعاتها.
فالفاعلية السياسية لجماعةالمتصوفة على مدار الأعوام الماضية ظلت خاضعة لاعتبارات عدة:
أولها: أن المتصوفة باتوا جزءا من مؤسسات الدولة العتيقة التي ألفت الاستقرار باعتباره نهجا أساسيا لاستمرار بقائها، وهذا ما يفسر مقاومتها أي محاولة للتغيير، وبالتالي باتت الحركات الصوفية، مثلها مثل مؤسسات الدولة الدينية الرسمية، عنصرا من عناصر مواجهة حركات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين
ثانيها: فشل جماعة الاخوان – في لحظات تمكينها السياسي – في مد جسور التواصل الديني والسياسي مع جماعة المتصوفة بل علي العكس سعت الجماعة لاستقطاب أعداء الصوفية من أبناء التيار السلفي الذي تصدر الواجهة، وبات يتحدث صراحة عن هدم مزارات الأولياء، وتطهير العقيدة بمفهومهم الخاص، ما دفع المتصوفة إلى الاحتماء بالدولة الضمانة الأهم لبقائهم واستمرارهم وحرية اعتناقهم.
ثالثا: أن المشاركة الصوفية في العملية السياسية على مدار الأعوام القليلة الماضية لم تكن مشاركة أصيلة، وإنما جاءت بمثابة رد الفعل، ومحاولة لصد الخطر القادم من توهج خطر الحضور السلفي على اختلاف مشاربه، وغاراته الشرسة على رموز التيار الصوفي، وفي مقدمتها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، والمفتي السابق الشيخ علي جمعة.
أفاق المستقبل
يذهب البعض إلى نفي إمكانية وجود دور سياسي لجماعة المتصوفة في الأعوام القادمة، وبأن الدور المرسوم لتلك الجماعة هو في الأساس دور دعوي وديني كقوى ناعمة تستطيع الدولة من خلالها مقاومة حركات الاسلام السياسي أو تيارات الممانعة للدولة المدنية الحديثة، غير أن تلك الفكرة تتجاهل عدة أمور:
أولها: أنه إذا كانت الفاعلية السياسية لأي جماعة أو حزب أو تيار تقاس بحجم أنصار الفكرة وقدرتها على الانتشار وجذب الأتباع والمناصرين، فإن جماعة المتصوفة التي يتراوح تعداد منتسبيها في مصر حسب بعض التقديرات ما بين 10 إلى 15 مليون مريد صوفي، أي ما يقارب نحو 15 في المائة من السكان، موزعة على جميع محافظات ومراكز وقرى ونجوع مصر، تبدو مؤهلة لشغل حيز هام في مستقبل التركيبة السياسية في البلاد.
ثانيا: أن جماعة المتصوفة أدركت في خضم الأحداث السياسية التي تلت ثورة يناير حجم قوتها السياسية، ما شجع العديد من مشايخ الطرق الصوفية لإعلان رغبتهم في إنشاء أحزاب سياسية، فظهرت بالفعل عدة أحزاب سياسية صوفية، منها حزب البيت الصوفي، وحزب النصر الصوفي، وحزب نهضة مصر، بالإضافة إلى إئتلاف الطرق الصوفية، وهي وإن بدت أحزاب محدودة الفاعلية إلا أنها تضمن لهم نصيبا من الكعكة في أي إئتلافات برلمانية.
ثالثا: أن لدى جماعة المتصوفة من المقومات الذاتية ما يؤهلها للعب دور سياسي هام في المستقبل القريب، فمنظومة القيم والأخلاق التي تقوم عليها الفكرة الصوفية تجعلها أقرب إلى مفاهيم الليبرالية منها إلى جماعة سياسية ذات مرجعية دينية، لاسيما ما يتعلق منها بمفاهيم التعددية السياسية، فالصوفية قائمة على فكرة التعددية والبعد عن الإقصاء ولكل شيخ طريقته، وهي ليست أسيرة أفكار سياسية موروثة عن الخلافة والدولة الدينية، ولا تجد بأسا في التعامل مع الآخر بمستوياته المختلفة.
رابعا: أن دخول جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان مرحلة المواجهة المسلحة مع المجتمع والدولة، يفسح مساحات أوسع للتصوف للانتشار، ما جعل المتصوفة هدفا للجماعات المتطرفة كما بدا واضحا في حادثة تفجير مسجد وضريح الشيخ عيد أبوجرير، التي راح ضحيتها أكثر من 300 مواطن سيناوي هم في الأغلب مريدين للطريقة الجريرية وشيخها.
أخيرا، فإن جماعة المتصوفة، للأسباب السابقة، ربما تكون مرشحة في الفترات المقبلة لتلقي دعم دوائر سياسية غربية تبحث عن بديل إسلامي معتدل يحل محل تيارات الممانعة التي تحول كثير منها إلى جماعات عنف ديني، وتعول على التصوف ومؤسساته في تذويب حجم التباين بين الأيديولوجية الإسلامية والثقافة الغربية، كما بدا في إطلاق عدد من المؤتمرات الدولية الرسمية لجماعة المتصوفة، كمؤتمر جروزني في الشيشان، أستثنى فيها بشكل أو بآخر التوجهات الدينية السلفية المتشددة من الحضور تحت مظلة العنوان الواسع الذي أظل حضور المؤتمر (ملتقى أهل السنة والجماعة).
وبحسب تقرير «مؤسسة راند» الأمريكية الصادر عام 2007 بعنوان «بناء شبكات مسلمة معتدلة»، فقد سعت دوائر سياسية غربية لفتح قنوات التواصل مع جماعات المتصوفة في مصر والعالم العربي، وفي العام التالي 2008 وجهت الدعوة للشيخ علاء ماضي أبو العزائم لحضور مؤتمر عن التصوف في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وقال أبو العزائم إن مشاركته في المؤتمر تسهم في إعطاء صورة صحيحة عن الإسلام والعالم العربي للأمريكيين، مرحبا بإمكانية لقاء مسئولين أمريكيين على هامش المؤتمر باعتبارها «فرصة لتصحيح الفكر الأمريكي تجاه الإسلام والمسلمين».
وتعوًل الدوائر الاستشراقية الغربية على أن منظومة القيم الأخلاقية والثقافية الصوفية لا تتعارض مع مفاهيم الديمقراطية الغربية، ما يعزز فرصها في صناعة نموذج إسلام حداثي يستوعب قيم العلمانية الغربية.
رغم ذلك تبقى فرص نجاح مثل هذا التوجه في مصر رهينة نجاح جماعة المتصوفة في إفراز جيل من النخب الثقافية الصوفية اكثر قدرة على استيعاب المتغيرات السياسية والثقافية من حولها، والتخلص من نمطية الصوفية الطرقية، فالصوفية في الأساس تجربة ذاتية ورؤية للعالم وللوجود وللآخر، أكبر من حصرها في مجرد التبعية لشيخ هو في الأغلب مجرد الوريث الأكبر لوالده.